للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[ولا تدع من دون الله ما لا ينفعك ولا يضرك]

قال المصنف رحمه الله: [وقول الله تعالى: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذَاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:١٠٦] {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:١٠٧]]: هذه الآية خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن الأمة تبعٌ له، فالله جلَّ وعلا نهى أقرب الناس إليه أن يدعو ما لا ينفعه ولا يضره، وهذا يصدق على كل مخلوق من المخلوقات: سواءً كان من الملائكة، أو من الرسل، أو من البشر، فضلاً عن الجمادات وغيرها، فأمره بقوله: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} [يونس:١٠٦] ثم قال: {فَإِنْ فَعَلْتَ} [يونس:١٠٦] يعني: دعوتَ من دون الله {فَإِنَّكَ إِذَاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:١٠٦]: والظلم هنا المقصود به: الشرك، وهذا كقوله جلَّ وعلا: {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} [الزمر:٦٥ - ٦٦]، وكذلك لما أخبر عن أنبيائه قال: {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام:٨٨] يعني: لو أشركوا بالله جلَّ وعلا لحبطت أعمالهم، فليس بين العباد وبين الله صلة بقرابة أو ما أشبه ذلك إلَّا بطاعته، من أطاعه فهو وليه وهو الكريم عنده، {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات:١٣]، فإذا كان هذا الخطاب يوجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فكيف بمن عداه؟! وقوله: ((وَلا تَدْعُ)): يدخل فيه دعاء المسألة ودعاء العبادة.

{وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ} [يونس:١٠٦]، فكل الخلق لا ينفعون ولا يضرون، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث ابن عباس الذي رواه الترمذي وغيره: (واعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم يكتبه الله لك لن يستطيعوا ذلك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يكتبه الله عليك لن يستطعيوا ذلك)، وكذلك ما رواه مسلم في صحيحه من قوله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه جلَّ وعلا: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً، ولو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد، ما نقص ذلك في ملكي شيئاً وفيه: إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)، فالأمر كله بيد الله جلَّ وعلا، فهو الذي يملك النفع ويملك الضر، ولهذا قال له: {وَلا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنْفَعُكَ وَلا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذَاً مِنَ الظَّالِمِينَ} [يونس:١٠٦] يعني: إذا دعوت غير الله فقد وقعت في الظلم الذي هو الشرك بالله؛ لأن الظلم أنواع، وأعظمها: الشرك، والظلم في الأصل هو: وضع الشيء في غير موضعه، ووضع العبادة لغير من يستحقها أعظم الظلم، ولا أظلم ممن يدعو مَن لا تجوز دعوته، وفي هذه الآية دليل على أن الإله المدعو يجب أن يكون مالكاً للنفع والضر، يملك ما يُدعى من أجله، وهذا لا يكون للمخلوق، ولا يكون إلَّا لله جلَّ وعلا، الذي بيده ملكوت كل شيء، وهو الذي إذا أراد نَفْعَ عبده نَفَعَه، وإن شاء ضُرَّه ضَرَّه، أما الخلق فلا يستطيعون شيئاً من ذلك، إلا إذا أراد الله جلَّ وعلا، والله لم يجعل الشرك سبباً لجلب الخير أو دفع الشر، بل هو سبب للشرور.

وقوله تعالى: {وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ} [يونس:١٠٧] يعني: أن هذا منفي عن جميع الخلق، فلا يستطيع أحد أن يدفع عنك شراً أو مصيبة قدرها الله عليك، وذلك إنما هو بيد الله، فإن شاء أزاله عنك، وإن شاء أبقاه {وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ} [يونس:١٠٧] أي: أنه لا يستطيع أحد أن يمنع فضلاً أراده الله لك، فإذا أراد بعبده رحمة: من صحة وعافية وهدىً ورزق وغير ذلك، فإنه لا أحد يستطيع رد فضله، إذاً: فالأمر كله بيده، فيجب أن يُعبد وحده، وتكون العبادة خالصة له، ويكون الدعاء له وحده.

وقوله تعالى: {فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} [يونس:١٠٧] أي: يصيب بفضله من يشاء، فالأمر إليه، وليس للإنسان ولا للخلق.

{وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} [يونس:١٠٧] الله جلَّ وعلا غفور رحيم مع كثرة الخطائين، وتجاوزهم لأمر الله جلَّ وعلا، فهو غفور لمن استغفر ورجع وتاب، ورحيم بالمؤمنين الذين يؤمنون، وإن كانت عندهم ذنوب وأخطاء، فإنه يغفر لهم ويرحمهم.

قال الشارح رحمه الله: [قال ابن عطية: معناه: قيل لي: (وَلا تَدْعُ)، فهو عطف على {أَقِمْ} [يونس:١٠٥]، وهذا الأمر والمخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم] أي: أن الله جل وعلا أمره أن يقيم وجهه، ثم عُطف عليه قوله: ((وَلا تَدْعُ))، فهو أمر؛ لأن قوله: {أَقِمْ} أمر، وكذلك قوله: ((وَلا تَدْعُ)) معطوف عليه، فهو أمر من الله جلَّ وعلا لرسوله صلى الله عليه وسلم، والمقصود: أمته فهي تبع له في ذلك.

[وهذا الأمر والمخاطبة للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.

إذا كانت هكذا، فأحرى أن يحذر من ذلك غيره، والخطاب خرج مخرج الخصوص، وهو عام للأمة]: يعني: أن الخطاب خوطب به الرسول صلى الله عليه وسلم والمقصود به: العموم، فكل الخلق مخاطبون بذلك.