[حال الموحدين يوم القيامة]
عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (عرضت علي الأمم).
وكل أمة يأتيها نبي من أنبياء الله تأتي يوم القيامة مع نبيها، ولكن الذي يأتي مع النبي هم المؤمنون فقط، أما الذين كفروا به فالكفار بعضهم مع بعض كلهم يجمعون ثم يلقون في جهنم من أولهم إلى آخرهم، ولكنهم يأتون أفواجاً، فكلما ألقي فيها فوج أو أمة لعنت أختها التي سبقتها، وقالت: أنتم الذين عملتم هذا العمل واقتدينا بكم في العمل.
ثم تلعن أولاهم أخراهم، وهكذا يصبحون متلاعنين قبل دخولهم جهنم، بخلاف أهل الجنة، فإنه ينزع ما في صدورهم من غل قبل دخول الجنة، ويدخلون الجنة إخواناً متحابين متآلفين، وذلك أن الخير كله في الجنة، وأن الشر كله بحذافيره في النار في جهنم.
وعرض الأمم على النبي صلى الله عليه وسلم يحتمل أن يكون يقظة وأنها مثلت له إذا أتت يوم القيامة كما مثلت له الجنة والنار في مسجد صلوات الله وسلامه عليه لما قام يصلي صلاة الكسوف، يقول: (لقد عرضت علي الجنة والنار دون هذا الحائط حتى خشيت أن تأتي عليكم، فقلت: يا رب! وأنا فيهم؟ وأما الجنة فإني هممت أن أتناول منها قطفاً، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا، ثم بدا لي ألا أفعل)، فهي مثلت له، ويجوز أن يكون التمثيل أمراً حقيقياً؛ لأنه شاهد النار وفيها من يعرفهم، وهو يقول: (مثلت لي الجنة والنار)، ويقول: (ورأيت فيها امرأة في هرة حبستها لا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض، فرأيتها تخمش وجهها في النار)، وقال: (رأيت فيها عمرو بن لحي الخزاعي يجر قصبه في النار)؛ لأنه أول من غير دين إبراهيم، مع أنه يقول: مثلت.
فتمثيلها بمن فيها.
وكذلك يجوز أن يكون تمثيل رؤيته للأمم مع أنبيائها من هذا القبيل، مثلت له فصار يشاهدها كهيئتها وهي تعرض على الله جل وعلا يوم القيامة، والمؤمنون هم الذين يأتون للعرض على ربهم جل وعلا مع أنبيائهم.
ويجوز أن يكون ذلك رؤيا منام، كما جاء في الصحيحين أنه ذكر رؤيا عجيبة فيها مناظر وأشياء ذكرها، فرأى النار، ورأى الجنة، ورأى آدم، ورأى غير ذلك رؤية منام، ومنام الأنبياء وحي يجب العمل به وتطبيقه، وتثبت الأحكام به، فهو نوع من أنواع الوحي الذي يوحى إليه صلوات الله وسلامه عليه، وأي نوع كان فهو حق لا شك فيه، وصدق أتى من عند الله جل وعلا.
قال صلى الله عليه وسلم: (فرأيت النبي ومعه الرهط) الرهط: هم العشرة فأقل، ما بين الثلاثة إلى العشرة، فإذا زادوا على ذلك فهم جماعة، فمعنى ذلك أنه رأى بعض الأنبياء ليس معه إلا هذا العدد القليل.
ثم قال: (ورأيت النبي ومعه الرجل والرجلان) يعني أنه يأتي إلى قومه فيدعوهم إلى الله جل وعلا بالوحي الذي أوحاه الله إليه فلا يتبعه إلا رجل أو رجلان.
وهذا عجيب، وأعجب منه قوله: (ورأيت النبي وليس معه أحد) يعني أنه يأتي إلى قومه فيدعوهم فيردون عليه دعوته كلهم، ولا يتبعه واحد منهم، وهذا دليل على أن أكثر الناس هالكون، وأن أكثر بني آدم في النار؛ لأنهم عصوا الرسل، ويدل على هذا نصوص كثيرة، منها ما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الله ينادي آدم فيقول: يا آدم! أخرج بعث النار من ذريتك، فيقول: يا رب! وما بعث النار؟ فيقول: من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون)، فمن كل ألف لا يبقى إلا واحد فقط، فمن كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون هم بعث النار يبعثون إليها، ويبقى واحد فقط، وقد قال الله جل وعلا: {وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ} [الأنعام:١١٦]؛ لأنهم ضالون، وقال: {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف:١٠٣]، وقال تعالى: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [سبأ:٢٠] في نصوص كثيرة تدل على ضلال الناس، فلهذا يجب على العبد أن يتعرف على الحق، ولا يغتر بالكثرة، فيتعرف على الحق مع من سيتبعه، ولا يغتر بأن الكثيرين خالفوا ذلك؛ فإن الحق عليه نور تطمئن إليه القلوب، وإذا عرفه الإنسان اطمأن إليه، أما قبل أن يعرفه فهو ينكره، ويتصور أن الحق مع الكثرة.
ثم يقول صلى الله عليه وسلم: (ورفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي) السواد معناه أنه يرى أشخاصهم ولا يميز أعيانهم، وإلا فهو صلوات الله وسلامه عليه يعرف أمته لو كانوا من قرب، ولكنه ما ميز أعيانهم، ولهذا ظن أنهم أمته، وقد جاء في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما أخبرهم أنه يقف عند الحوض يذود عنه من ليس من أمته قالوا: كيف تعرف أمتك؟ فأجابهم بأنه لو كان لإنسان خيل غر محجلة بين ظهراني خيل بهم دهم ألا يعرف خيله؟ قالوا: بلى.
قال: (فإن أمتي يأتون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء).
ثم في هذا دليل واضح على فضل بني إسرائيل وفضل موسى، وعلى كثرتهم حتى ظن أنهم هم أمته، فقيل له: هذا موسى وقومه.
وهذا فيما يظهر خاص بموسى وبمن دعاهم واتبعوه، وأما بعد ذلك فقد غيروا وتفرقوا، وقد قال صلوات الله وسلامه عليه: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة -يعني فرق بني إسرائيل الذين هم اليهود والنصارى وفرق هذه الأمة- فقيل: من هم يا رسول الله -أي: الفرقة الواحدة الناجية من هي-؟ قال: ما أنا عليه وأصحابي)؛ لأنه صلوات الله وسلامه عليه هو القدوة، وأصحابه هم الذين تلقوا الحق عنه وقبلوه تمام القبول، وبلغوه الأمة، وبلغوه إلى من بعدهم، فهم الواسطة بين الأمة وبين رسولها صلوات الله وسلامه عليه الذين نقلوا الدين غضاً طرياً كما أنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم العدول باتفاق أهل الهدى؛ لأن الله عدلهم في كتابه، وما عدله الله وأثنى عليه وأخبر أنه رضي عنه يجب أن يعدل وأن يترضى عنه وأن يتبع وأن تعلم هدايته، وأما الذين يقدحون فيهم فهم في الواقع يقدحون في الشرع؛ لأن من قدح في الواسطة بيننا وبين رسوله فقد قدح بشرعنا، كما قال الإمام أبو زرعة: إنما يريدون أن يقدحوا في الشرع.