للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[غلو النصارى في المسيح]

الآية التي قبل هذا هي في نهي الله جلَّ وعلا أهلَ الكتاب أن يغلوا في دينهم وألَّا يقولوا على الله إلَّا الحق، يقول جلَّ وعلا: {إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ} [النساء:١٧١] وهذا لرد باطلهم، ومعلومٌ أن الرسول هو المأمور الذي أمره المرسِل أن يمتثل أمره، وأن يؤدي إلى عباده ما أمره به، فالرسول عبدٌ مطيع لمرسِلِه، فعيسى لما خالفَ في خلقه العادة التي أجرى الله جلَّ وعلا عليها بني آدم من كون الإنسان يتولد من أب وأم، وعيسى ولدته مريم عليها السلام ولم يمسها بشر، ومن المعروف أن خلق بني آدم تنوَّعَ للدلالة على قدرة الله جلَّ وعلا: فأبو البشر آدم خلقه الله جلَّ وعلا من طين ليكون آية لنا، ولنعرف ذلك ونستدل به على إعادتنا بعدما نكون تراباً، فإننا إذا راجعنا إلى أصلنا تراباً نُعاد مرةً أخرى، ونُخرَج من التراب أحياءً كما كنا، فيكون هذا دليلاً لنا، وجعل ذلك جلَّ وعلا حجةً على الذين ينكرون البعث بعد الموت، وهو أمر قد تواردت عليه الأمم، وجاءت به أخبار الله التي لا يمكن أن يتطرق إليها شك أو ريب، ومن المؤسف أن كثيراً من المسلمين صارت تنطلي عليهم أفكار الملاحدة الذين يشككون فيما يذكره الله جلَّ وعلا، وقد يكون الذين جاءوا بهذه الأفكار قد رجعوا عنها، وكأنهم يضحكون على الناس.

فالمقصود: أن الله جلَّ وعلا أخبرنا أنه خلق آدم من تراب.

وأخبرنا أنه خلق زوجه منه، امرأة خُلقت من ذكر، وهذا ليس أغرب من خلق البشر من التراب؛ ولكن قدرة الله جلَّ وعلا صالحةٌ لكل شيء، ولا تُحَدُّ بِحَد.

ثم صار خلق سائر بني آدم من ذكر وأنثى على الشيء الذي يتعارفونه.

وجاء القسم الرابع وهو: خلق ذكر من أنثى بلا أب، وهو عيسى عليه السلام.

كل ذلك تنوُّعٌ في قدرته تعالى، وبيان على أنه لا يعجزه شيء.

فلما رأوه جاء مخالفاً لما اعتاده الناس غلوا فيه، وقالوا: إنه (ابن الله)، تعالى الله وتقدس عن الزوجات وعن الحاجات، وهؤلاء -قبحهم الله- جعلوا الله بمنزلة المخلوق المحتاج، ومنهم من يقول: (عيسى هو الله)، يعني: أن الله دخل في أحشاء الأنثى، وبقي في ظلمات الأحشاء تسعة شهور، ثم خرج من فرجها ضعيفاً، ثم تسلط عليه اليهود -على حد زعمهم- فأخذوه وقتلوه وصلبوه! أيُّ عقول هذه التي تزعم أن هذا (هو الله)؟! تعالى الله وتقدس.

فلهذا أخبر عن قولهم أنه كفر صريح، وأخبر أنه رسول أكرمه الله جلَّ وعلا بالرسالة، فصار الناس في وقته طائفتين: طائفة: غلت فيه بالحب والثناء والمدح حتى جعلوه إلهاً، فقالوا: (هو ابن الله) أو (هو الله) أو (هو ثالث ثلاثة: الله والمسيح وأمَّهُ)، يعني: جعلوا المخلوق الضعيف مشاركاً لله جلَّ وعلا في خصائصه.

الطائفة الأخرى: غلت في الجفاء والبغض وهم اليهود، حتى رموا والدته بأنها زانية، وأنه ابن زنىً، قبحهم الله، ثم حاولوا قتله، فابتلاهم الله جلَّ وعلا وألقى شَبَههُ على رجل منهم فقتلوه وصلبوه وزعموا أنه هو عيسى، وقد بين الله جلَّ وعلا أنهم ما قتلوه ولا صلبوه كما قال تعالى: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء:١٥٨]، وسينزل في آخر الزمان، ويقتل الخنزير ويكسر الصليب ويضع الجزية ولا يقبل إلَّا الإسلام، ثم يموت ويُدفن، ثم بعد ذلك يبعثه الله جلَّ وعلا مثل سائر الخلق.

ولهذا بين الله جلَّ وعلا أن خصائص المخلوقين موجودة في عيسى وأمِّه، ولكنه جعل عيسى رسولاً وأمَّه صديقة، فهما يحتاجان ما يحتاجه البشر ولهذا قال: {كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} [المائدة:٧٥] والذي يأكل الطعام لا يصلح أن يكون إلهاً، والذي يحتاج إلى الطعام فيأكله، لابد أن يأتي بلازم المأكول من قضاء الحاجة، وهذا نقص فيه، فلو احتبس فيه ما أكله لمات.

هذه هي عقيدة النصارى تعالى الله وتقدس عنها! وكل هذه أفكار سيئة جداً، وتنقُّصٌ لله جلَّ وعلا غاية التنقُّص، ولهذا كفَّرهم الله جلَّ وعلا بذلك.