للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معنى الغول والمراد بنفي النبي صلى الله عليه وسلم له في الحديث]

قال الشارح رحمه الله: [قوله: (ولا غول) هو بالضم اسمه، وجمعه أغوال وغيلان، وهو المراد هنا، قال أبو السعادات: الغول: واحد الغيلان، وهو جنس من الجن والشياطين، كانت العرب تزعم أن الغول في الفلاة تتراءى للناس، تتلون تلوناً في صور شتى، وتغولهم أي: تضلهم عن الطريق وتهلكهم، فنفاه النبي صلى الله عليه وسلم وأبطله].

ليس معنى نفي النبي صلى الله عليه وسلم للغول نفي وجود الجن والشياطين، فهؤلاء موجودون، وكثير منهم يريد أذى ببني آدم، ويتعرضون لهم، ويظهرون كثيراً بأنهم أعداؤهم، وقد أخرج أبوهم من الجنة؛ بسبب عداوته لآدم كما هو معلوم، فأقسم لربه جل وعلا أنه سوف يحتنك ذرية بني آدم، يعني: يستولي عليهم ويضلهم، إلا من استثناه الرحمن جل وعلا، فهم حريصون جداً على أذية بني آدم، ومن كان منهم على نهج أبيه فإنه يحرص كل الحرص على أذيتهم بأي شيء كان.

ولكن من رحمة الله جل وعلا أنه ما جعل لهم سلطاناً على المؤمنين، فإن المؤمن يتحصن بحصن حصين لا يستطيعون أن يأتوا إليه أو يقربوه إذا جاء به وهو ذكر الله، فإذا قال: طردهم وحمى منهم، وكذلك تلاوة القرآن، والأذان، وغير ذلك من الأذكار فليس على المؤمنين منهم ضرر.

أما تسلطهم على المشركين والغافلين، فهذا يجوز أن يقع كما هو معلوم للناس، لهذا لا يكون الإيذاء منهم إلا للغافل الذي لا يذكر الله جل وعلا، فلا يتعرضون للمسافر، ولا لغيره إذا كان ذاكراً لله جل وعلا، وإذا ظهر له شيء فذكر الله، فإنه يزول ذلك ويذهب عنه، لهذا جاءت الآثار: (أنه إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان)، يعني: إذا رأيتم شيئاً من هؤلاء فاذكروا الله جل وعلا، فإنهم يهربون.

قال الشارح رحمه الله: [فإن قيل: ما معنى النفي وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان)؟ أجيب عنه: بأن ذلك كان في الابتداء، ثم دفعها الله عن عباده].

هذا الجواب غير صحيح، وهي ما زالت موجودة، وقد تتعرض للرجل، فإذا ذكر الله زالت وذهبت واختفت، كما بشهد بذلك الواقع.

قال الشارح رحمه الله: [أو يقال: المنفي ليس وجود الغول، بل ما يزعمه العرب من تصرفه في نفسه، فيكون المعنى بقوله: (لا غول)، أنها لا تستطيع أن تضل أحداً مع ذكر الله والتوكل عليه].

هذا هو الصواب، فلا تستطيع أن تضل أحداً مع ذكره لله جل وعلا والإيمان به، فإنها تذهب وتزول وتنتهي، وإنما يكون تسلطهم على الكافرين المشركين، وعلى الغافلين الذين يغفلون عن ذكر الله جل وعلا، ويعرضون عنه، ويكثرون من المعاصي، ويقلّون من الطاعات.

قال الشارح رحمه الله: [ويشهد له الحديث الآخر: (لا غول ولكن السعالي: سحرت الجن)، أي: ولكن في الجن سحرة لهم تلبيس وتخييل، ومنه: الحديث (إذا تغولت الغيلان فبادروا بالأذان)، أي: ادفعوا شرها بذكر الله، وهذا يدل على أنه لم يرد بنفيها عدمها، ومنه: حديث أبي أيوب: (كان لي تمر في سهوة، وكانت الغول تجيء فتأخذ)].

الغول يعني: الجن الشياطين، والجن من تمرد منهم يكون شيطاناً، وحتى الإنس يكون منهم شياطين، كما قال الله جل وعلا: {شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا} [الأنعام:١١٢]، وفي حديث أبي ذر: (تعوذ بالله من شياطين الجن والإنس، فقلت: أو للإنس شياطين؟ قال: نعم) كذلك الحديث الذي في الصحيحين، في قصة زكاة الفطر التي جمعها الصحابة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووضعها في المسجد حتى يفرقها، وسأل أبا هريرة أن يحرسها في الليل، فجاءه رجل وصار يحثو من التمر فأمسكه، فجعل يترجاه ويقول: دعني؛ فإني فقير محتاج وعندي عيال، يقول: فرحمته فتركته، فلما غدوت على رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال صلى الله عليه وسلم: (ما صنع أسيرك يا أبا هريرة؟ فقلت: زعم أنه بحاجة وعليه عيال فرحمته وتركته -وذلك لأن هذا التمر سيوزع لذوي الحاجة والفقراء- فقال له صلى الله عليه وسلم: أما إنه سيعود، فرجع الليلة الثانية، فأمسكته، وقلت: مرة ثانية، مرة لا أتركك حتى أذهب بك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فصار يترجاه كثيراً، ويلح ويقول: أنا محتاج، وأنا فقير، وعندي عيال فقراء، فتركه، فلما غدا على النبي صلى الله عليه وسلم قال له كما قال في الأولى، وقال: إنه سيعود، فجاءه في الليلة الثالثة، فقال: الآن لا أتركك، هذه ثالث مرة تزعم فيها أنك لن تعود فتعود -والكذب ظاهر- فقال: دعني أعلمك شيئاً ينفعك الله به -وكانوا حريصين على الخير- قال: نعم، فقال له: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي، فإنه لا يزال عليك من الله حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فلما ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم أخبره بهذا، قال: صدقك وهو كذوب، أتدري من تخاطب منذ ثلاث؟ قلت: لا، قال: ذاك الشيطان) أي: شيطان من الشياطين وقوله: (صدقك وهو كذوب)، يعني: أن هذا صحيح وصدق، ولكن هذا الشيطان ما استطاع أن يضر الصحابة في دينهم، فحاول أن يضرهم ولو بأخذ هذا التمر، وكيد الشيطان ضعيف دائماً.

فالمقصود أنه يعرض للإنسان، وقد يراه في صورة إنسان يخاطبه ويكلمه، ويظن أنه من بني آدم، ويتخاطب معه، وقد يأتي -مثل ما ذكر- في صورة غول، يعني: صورة منكرة مخيفة، حتى يخيف الإنسان، وهذا الغول مأخوذ من غول؛ لأنه يتصور بصورة منكرة مخيفة، فيرعب الإنسان ويخوفه، وقد يهرب الإنسان عنه حتى يضل ويهلك، وهذا لا يقع للمؤمن الذي يذكر الله جل وعلا، هذا هو المنفي عنه.