للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الشرك هو الذي أحل دماء المشركين]

فإذا كان الأمر هكذا فما الذي جعلهم خالدين في النار؟ وما الذي جعلهم حلال دمهم وأموالهم ونساؤهم؟ لماذا وهم يؤمنون بهذا؟ يؤمنون بأن الله هو المتفرد بالخلق، وأنه يعلم ما في الصدور، وأنه يجازي العباد على أعمالهم، وأنه هو الذي قضى الأشياء، وهو الذي يحيي ويميت، وهو الذي يتصرف في الكون وحده، ليس معه شريك.

نقول: الذي أحل دماءهم، وجعلهم في النار هو كونهم جعلوا وسائط بينهم وبين ربهم يدعونها، ويطلبون منها أن تقربهم إلى الله زلفى، كما قال الله جل وعلا: {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ} [الزمر:٤٣] يعني: تتخذونهم وهم لا يملكون شيئاً ولا يعقلون، وتجعلونهم شفعاء لكم؟! {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} [الزمر:٤٤]، وكذلك في آيات كثيرة جداً، والواجب على الإنسان أن يتدبر كتاب الله، وأن يتدبر سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هؤلاء، وأن يعرف حكم الله في ذلك، وأن يعرف ما أوجبه الله عليه حتى يخلص من عذاب الله جل وعلا، والله خلق الخلق لهذا الأمر، خلق الجنة والنار لتكون الجنة جزاءً لمن وحد الله وآمن به واتبع أوامره واجتنب نواهيه، وخلق النار لتكون عقاباً لمن لم يفعل ذلك، واتبع هواه، وترك أمر الله وراءه ظهرياً ولم يبال به.

ثم إن الإنسان خلق عبداً فلا بد أن يكون عبداً، لا بد أن يعبد، ولا يمكن أن ينفك عن العبادة، فإن لم يعبد ربه ويتبع الطريقة التي رسمها له الرسول صلى الله عليه وسلم عبد هواه أو شهوته أو رؤساءه أو المظاهر الأخرى من مظاهر الدنيا، فلا بد أن يعبد، وقد قال الله جل وعلا: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} [الجاثية:٢٣] (اتخذ إلهه هواه) يعني أنه إذا هوي شيئاً فعله بدون مبالاة وبدون نظر إلى أن الله أمر به أو نهى عنه، بل يقدمه على أمر الله ولا يبالي، وكذلك أخبر الله جل وعلا أن أكثر الناس عبدوا الشيطان، فهل هم يصلون للشيطان ويسجدون له؟ كلا.

ولكنهم اتبعوه فيما سول لهم وزينه لهم، يقول جل وعلا: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس:٦٠]، وقال جل وعلا: {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ} [سبأ:٢٠]، فإبليس ظن لما رأى آدم أن ذريته لا تطيع ربه جل وعلا، إنما يطيعه القليل منهم، فصار يجتهد في دعوتهم إلى أن يكونوا معه في جنهم، وللأسف أكثرهم اتبعه، وهو ليس له سلطان عليهم، وليس له حجةً، بل مجرد تسويل ودعوة فقط، لهذا أخبر الله جل وعلا أنه إذا حكم بينهم ووضعهم في جنهم جميعاً هم ورئيسهم ومعبودهم الشيطان يقوم الشيطان خطيباً في جهنم فيقول لما حكى الله تعالى عنه: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} [إبراهيم:٢٢] أي: ما لي عليكم حجة ولا قوة ولا برهان: {إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي} [إبراهيم:٢٢] يعني: مجرد دعوة عارية من الحجة ومن البرهان والقوة والسلطان {فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ} [إبراهيم:٢٢] يعني: ما أنا بمغيثكم ولا بمغني عنكم شيئاً، {وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ} [إبراهيم:٢٢] كذلك لا تغنون عني شيئاً: {إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ} [إبراهيم:٢٢] يعني: كفرت بطاعتكم وتبرأت منها، هكذا يقول لهم وبذلك تزداد حسراتهم ويزداد عذابهم، ولهذا أخبر أن المنافق مثله مثل الشيطان، فالمنافق الذي يعد الآخر وعوداً لا يفي بها ثم يتبرأ منه في آخر لحظة مثله مثل الشيطان، قال تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر:١٦]، ما يخاف الله رب العالمين، ولكن ليس بيده شيء.

فالمقصود أن الأمر واضح جلي، فتوحيد الربوبية وتوحيد الأسماء والصفات أمر ظاهر، ومع ذلك إذا أقر به الإنسان وآمن به لا ينفعه ولا يجزي عنه شيئاً حتى يضم إليه توحيد العبادة، وهو أن يخلص الأعمال التي تصدر منه، أن تكون أفعاله خالصة لله جل وعلا، وسمي توحيد عبادة لأنه يصدر من العبد، وسمي (إلهية) لأن مبناه على المحبة وعلى تأله القلب، وسمي توحيد عبادة لأنه مبني على التعبد لله وحده، وسمي توحيد قصد لأن مبناه على أن يكون القصد لله وحده، فيقصد ربه، وسمي كذلك توحيد إرادة لأن النية والإرادة يجب أن تكون خالصة لله جل وعلا، وكل هذا يصدر من العبد، ولهذا قال في الفرق بين توحيد الربوبية وتوحيد الإلهية: توحيد الربوبية: توحيد الله في أفعاله، أن تجعله واحداً بما يفعله هو، وكذلك تعتقد وحدانيته فيما يتصف به جل وعلا، لا شريك له في ذلك، وأما توحيد العبادة أو توحيد الإلهية فمعناه أن توحد الله بما يصدر منك أنت، فتجعله واحداً، وتجعل عملك واحداً لواحد، كما قال ابن القيم في النونية: كن واحداً لواحد في واحد أعني طريق الحق والإيمان (كن واحداً) يعني: كن عبداً لا تكن متفرقاً تعبد هذا وتعبد هذا، كن عبداً لواحد، كن واحداً جامعاً إرادتك وقصدك وعملك غير متفرق، فلا تجعل شيئاً للمال وشيئاً للدنيا وشيئاً للشيطان، (كن واحداً لواحد) لله جل وعلا فقط، هذا الذي يفيد.

(في واحد) يعني: في نهج واحد، وفي سبيل واحد الذي هو طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وسنته، ولا بد من ذلك وإلا كان الإنسان مبتدعاً، ومتبعاً للآراء أو لغير ذلك من الطرق التي تتوزع، فيجب أن يجمع العبد بين هذه الأنواع كلها.