للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الدعاء الوارد في إذهاب الطيرة والتشاؤم]

[وبالجملة يحب كل كمال وخير، وما يفضي إليهما، والله سبحانه قد جعل في غرائز الناس الإعجاب بسماع الاسم الحسن، ومحبته، وميل نفوسهم إليه، وكذلك جعل فيها الارتياح والاستبشار والسرور باسم الفلاح، والسلام والنجاح والتهنئة، والبشرى والفوز والظفر ونحو ذلك، فإذا قرعت هذه الأسماء الأسماع استبشرت بها النفوس، وانشرح لها الصدر، وقوي بها القلب، وإذا سمعت أضدادها أوجب لها ضد هذه الحال، فأحزنها ذلك، وأثار لها خوفاً وطيرة وانكماشاً وانقباضاً عما قصدت له وعزمت عليه، فأورث لها ضرراً في الدنيا، ونقصاً في الإيمان، ومقارفة الشرك.

وقال الحليمي: وإنما كان صلى الله عليه وسلم يعجبه الفأل لأن التشاؤم سوء ظن بالله تعالى بغير سبب محقق، والتفاؤل حسن ظن بالله، والمؤمن مأمور بحسن الظن بالله تعالى على كل حال.

قال المصنف رحمه الله: ولـ أبي داود بسند صحيح عن عقبة بن عامر قال: ذكرت الطيرة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: (أحسنها الفأل، ولا ترد مسلماً، فإذا رأى أحدكم ما يكره، فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك).

] هذا معناه أنه أدخل الفأل في الطيرة فقال: (أحسنها الفأل) وأن الطيرة لا يلتفت إليها المسلم، ولا يعتمد عليها، والفأل أيضاً لا يعتمد عليه، ولا يبني عليه شيئاً، وإنما يبني عليه ظناً ورجاءً فقط، يظن الخير ويرجوه، وإلا فهي مقطوعة عن التصرف.

وكذلك فيه الإرشاد إلى اللجوء إلى الله، والهروب إليه، والتوسل إليه بدعائه أنه لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو، والحسنات: كل خير، وكل ما فيه أنس ومسرة من أمور الدنيا والآخرة، والسيئات: كل مضر، وكل ما يسوءه ويضره في الدنيا والآخرة فهو سيئة، فصار هذا عاماً شاملاً في أن الأمور كلها بيد الله.

قوله: (لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يذهب بالسيئات إلا أنت، ولا حول ولا قوة إلا بك)، يعني: أنني لا أستطيع أن أتحول من حال إلى أخرى إلا إذا قويتني وأعنتني على ذلك، فمعنى ذلك أنه لجوء إلى الله، وتبرؤ من قوة النفس وتصرفها، وأنه لا قوة له ولا تصرف له إن لم يجعل الله جل وعلا له قوة وتصرفاً، فهو توحيد لله جل وعلا بالأفعال، وبالخضوع له والالتجاء إليه، والتبري من القوة أو التحول من حال إلى أخرى إلا بالله جل وعلا.

هذا من أعظم ما ينبغي للإنسان أنه يسأله ويلجأ إليه، ألا يعتمد على فأل ولا طيرة.

أما قوله: (ولا ترد مسلماً) ففيه تنبيه على أن الذي ترده الطيرة قد يكون خارجاً عن الإسلام؛ لأن المسلم لا ترده الطيرة، يعني: لو رآها -مثلاً- وقعت له فإنه يعرض عنها، ويتوكل على ربه جل وعلا، ويقول هذا الدعاء، ولا يأتيه إلا خير بإذن الله تعالى.

قال الشارح رحمه الله: [قوله: وعن عقبة بن عامر هكذا وقع في نسخ التوحيد، وصوابه: عن عروة بن عامر كذا أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما].

فالمؤلف رحمه الله نقله من كتاب ابن السني، وابن السني هكذا وقع الخطأ في كتابه عقبة بن عامر، وليس الخطأ من الشيخ، وإنما وقع الخطأ في المصدر الذي هو كتاب عمل اليوم والليلة لـ ابن السني، فالمؤلف رحمه الله نقله منه، وهذا الخطأ الذي فيه إما من الناسخ أو من بعض الرواة.

والله أعلم.

قال الشارح رحمه الله: [وهو مكي اختلف في نسبه، فقال أحمد: عن عروة بن عامر القرشي وقال غيره: الجهني، واختلف في صحبته فقال البارودي: له صحبة، وذكره ابن حبان في ثقاة التابعين، وقال المزي: لا صحبة له تصح.

قوله: (فقال: أحسنها الفأل) قد تقدم أنه صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الفأل، وروى الترمذي وصححه عن أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا خرج لحاجته يحب أن يسمع يا نجيح! يا راشد!!) وروى أبو داود عن بريدة: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يتطير من شيء، وكان إذا بعث عاملاً سأله عن اسمه، فإذا أعجبه فرح به، وإن كره اسمه رئي كراهية ذلك في وجهه) وإسناده حسن.

وهذا فيه استعمال الفأل.

قال ابن القيم: أخبر صلى الله عليه وسلم أن الفأل من الطيرة، وهو خيرها، فأبطل الطيرة، وأخبر أن الفأل منها ولكنه خير منها، ففصل بين الفأل والطيرة لما بينهما من الامتياز والتضاد، ونفع أحدهما، ومضرة الآخر، ونظير هذا: منعه من الرقى بالشرك، وإذنه في الرقية إذا لم يكن فيها شرك؛ لما فيها من المنفعة الخالية من المفسدة.

قوله: (ولا ترد مسلماً)، قال الطيبي: تعريض بأن الكافر بخلافه.

قوله: (اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت)، أي: لا تأتي الطيرة بالحسنات، ولا تدفع المكروهات، بل أنت وحدك لا شريك لك الذي تأتي بالحسنات وتدفع السيئات، والحسنات هنا النعم، والسيئات المصائب، كقوله سبحانه: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا * مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:٧٨ - ٧٩]، ففيه نفي تعلق القلب بغير الله في جلب نفع أو دفع ضر وهذا هو التوحيد، وهو دعاء مناسب لمن وقع في قلبه شيء من الطيرة، وتصريح بأنها لا تجلب نفعاً ولا تدفع ضراً، ويعد من اعتقدها سفيهاً مشركاً.

قوله: (ولا حول ولا قوة إلا بك) استعانة بالله تعالى على فعل التوكل، وعدم الالتفات إلى الطيرة التي قد تكون سبباً لوقوع المكروه عقوبة لفاعلها، وذلك الدعاء إنما يصدر عن حقيقة التوكل، الذي هو أقوى الأسباب في جلب الخيرات ودفع المكروهات، والحول: التحول، وهو الانتقال من حال إلى حال، والقوة على ذلك بالله وحده لا شريك له، ففيه: التبري من الحول والقوة والمشيئة بدون حول الله وقوته ومشيئته، وهذا هو التوحيد في الربوبية، وهو الدليل على توحيد الإلهية الذي هو إفراد الله تعالى بجميع أنواع العبادة، وهو توحيد القصد والإرادة، وقد تقدم بيان ذلك بحمد الله].