للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[حقيقة الخيرية المذكورة للقرون الثلاثة]

قال الشارح رحمه الله: [قوله: (وفي الصحيح) أي: صحيح مسلم، وأخرجه أبو داود والترمذي، ورواه البخاري بلفظ: (خيركم) قوله: (خير أمتي قرني) لفضيلة أهل ذلك القرن في العلم والإيمان، والأعمال الصالحة التي يتنافس فيها المتنافسون، ويتفاضل فيها العاملون، فغلب الخير فيه وكثر أهله، وقل الشر فيه وأهله، واعتز فيه الإسلام والإيمان، وكثر فيه العلم والعلماء.

(ثم الذين يلونهم) فضلوا على من بعدهم: لظهور الإسلام فيهم، وكثرة الداعي إليه، والراغب فيه والقائم به، وما ظهر فيه من البدع أنكر واستعظم وأزيل؛ كبدعة الخوارج والقدرية والرافضة.

فهذه البدع وإن كانت قد ظهرت فأهلها في غاية الذل والمقت والهوان والقتل فيمن عاند منهم ولم يتب.

قوله: (فلا أدري أذكر بعد قرنه مرتين أو ثلاثاً؟) هذا شك من راوي الحديث عمران بن حصين رضي الله عنه.

والمشهور في الروايات: أن القرون المفضلة ثلاثة، الثالث دون الأولين في الفضل، لكثرة ظهور البدع فيه، لكن العلماء متوافرون، والإسلام فيه ظاهر، والجهاد فيه قائم، ثم ذكر ما وقع بعد القرون الثلاثة من الجفاء في الدين، وكثرة الأهواء.

فقال: (ثم إن بعدكم قوماً يشهدون ولا يستشهدون) لاستخفافهم بأمر الشهادة، وعدم تحريهم للصدق، وذلك لقلة دينهم، وضعف إسلامهم.

قوله: (ويخونون ولا يؤتمنون) يدل على أن الخيانة قد غلبت على كثير منهم، أو أكثرهم.

قوله: (وينذرون ولا يوفون) أي: لا يؤدون ما وجب عليهم، فظهور هذه الأعمال الذميمة يدل على ضعف إسلامهم، وعدم إيمانهم.

قوله: (ويظهر فيهم السمن) لرغبتهم في الدنيا، ونيل شهواتهم والتنعم بها، وغفلتهم عن الدار الآخرة، والعمل لها.

وفي حديث أنس: (لا يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه حتى تلقوا ربكم) قال أنس: سمعته من نبيكم صلى الله عليه وسلم، فما زال الشر يزيد في الأمة حتى ظهر الشرك والبدع في كثير منهم، حتى فيمن ينتسب إلى العلم، ويتصدر للتعليم والتصنيف.

قلت: بل قد دعوا إلى الشرك والضلال والبدع، وصنفوا في ذلك نظماً ونثراً فنعوذ بالله من موجبات غضبه].

الشاهد للباب من هذا الحديث قوله: (ويشهدون ولا يستشهدون، وينذرون ولا يوفون).

قال المصنف رحمه الله: [وفيه عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يجيء قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه ويمينه شهادته)].

قوله: (فيه) يعني: في الصحيح عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم يأتي قوم تسبق شهادة أحدهم يمينه، ويمينه شهادته) وهذا فيه الإطلاق بأن الصحابة خير الناس، يعني: إذا كانوا خير الناس فلابد أن يخرج من ذلك الأنبياء والرسل، فهم أفضل الناس، لكن هل الناس المقصود بهم مطلقاً، أو الناس الذين بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم؟ جاءت النصوص تدل على أن المقصود أنهم خير الناس مطلقاً، وأما الرسل فهم يخرجون من هذا بالنصوص الأخرى، وقد جاءت أحاديث في فضل القرن الأول منها: قوله: (أنكم توفون سبعين أمة، أنتم خيرها وأفضلها)، ولا شك أن الخيرية لصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم أولى، وبهم أجدى، إذ هم الذين تلقوا عن النبي صلى الله عليه وسلم، وشاهدوا نزول الوحي، وجاهدوا معه، وكذلك بلغوا دعوته بعده.

والخيرية تنحصر في قبول الدين واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا شك أنه صلوات الله وسلامه عليه وجد من يقبل دينه ومن يناصره عليه، وهم الصحابة رضوان الله عليهم، وقد لقوا العنت والمشاق، والأمور الصعبة التي تحملوها في سبيل ذلك، وصارت عندهم سهلة ميسورة في سبيل طاعة الله وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، فتفانوا في ذلك وأنفقوا أموالهم وبذلوا نفوسهم طاعة لله مغتبطين بذلك، وبذلك صاروا هم خير الناس، ثم الخيرية فيمن بعدهم تتفاوت لتفاوت القبول لهذا الدين، والتأثر به، والقيام به على حسب أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، وكلما بعد بالناس العهد بالنبوة قل التأثر، وقل التقى واتباع الحق، إلى أن يكون شرار الناس هم من تقوم عليهم الساعة، كما جاء في صحيح مسلم: (شرار الخلق الذين يتخذون القبور مساجد، ومن تقوم عليهم الساعة) وفي الصحيح عن أنس (ما يأتي زمان إلا والذي بعده شر منه) ثم يقول: سمعت ذلك من نبيكم صلى الله عليه وسلم.

ومعلوم أن الخيرية ليست في الذوات والأجساب، والتفاخر في الدنيا، والتكاثر فيها بالأموال والأولاد، وإنما الخيرية في طاعة الله وحبه ومعرفته، وهذا أمر لا يجادل فيه من يعرف الحق، ولا شك أن الصحابة أولى الناس بذلك، إذ هم الذين فهموا الوحي وقبلوه على الوجه الذي ينبغي، ثم إنهم قاموا ببذل أموالهم وأنفسهم في الذب عن دين الله، وبذل الطاعة للنبي صلى الله عليه وسلم، مغتبطين بهذا راغبين فيه، فاستحقوا بذلك أن يكونوا خير الناس.

والصحابي يطلق على كل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم وهو مؤمن به.

ولا شك أن النبي صلى الله عليه وسلم في آخر عهده رآه خلق كثير جداً وهم مؤمنون به، وذلك في حجة الوداع، وإن كانت مرة واحدة فهو يصدق عليهم اسم الصحابي.