للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[محبة النبي صلى الله عليه وسلم]

محبة الرسول صلى الله عليه وسلم تكون تبعاً لمحبة الله، يحبه لأن الله يحبه، ولأن الله أمر بحبه، ولأنه جل وعلا أكرمه بالرسالة، الله جل وعلا أنقذك على يديه من النار، فمحبته مقدمة على محبة الوالد والأولاد والمال والنفس.

فمحبته تكون لهذه الأمور: أولاً: لأن الله أوجب ذلك، فأنت يجب عليك أن تمتثل ما أوجبه الله عليك لأنك عبد لله، والعبد يمتثل أمر سيده، ولا يجوز أن يسأل سيده ويناقشه: لماذا أمرت بكذا؟ ولماذا أوجبت علي كذا؟ بل يقول: سمعاً وطاعة.

ثانياً: أن المحب يحب حبيب حبيبه ولابد، ويبغض من يبغض حبيبه، وإلا لم تكن محبته صحيحة، يعني: كون الإنسان يكون له محب يحبه، ويعلم أن هناك عدواً له، ثم يذهب يصاحب العدو فيصافيه ويوده، هذا دليل على أنها محبة زائفة وغير صحيحة، فلابد للمحب أن يكون محباً لمن يحبه، ويبغض من يبغضه حبيبه، وإلا لا تكون محبة صادقة، بل تكون كاذبة بالادعاء، والادعاء ما يفيد.

إذاً: محبة الرسول صلى الله عليه وسلم فرض عين على كل مسلم ومسلمة، أن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من جميع من في الدنيا، بما فيها نفسه، فكيف بالمال؟! والمحبة هذه ليست كما يقول بعض المتكلمين: إنها محبة عقلية، يقول: إن العقل ينظر للعواقب، فإذا عرف أن عاقبة محبة الرسول صلى الله عليه وسلم تئول إلى المصالح آثرها بعقله وليس بقلبه، هذا كلام باطل لأن الحب محله القلب.

والمتكلمون ينكرون أن يكون الله جل وعلا يحَب أو يحب؛ فقالوا هذا القول على قواعدهم الباطلة، وكل يعرف المحبة، ويجد المحبة في نفسه، فهي تكون في القلب ومن عمل القلب، ثم يظهر ذلك على الأعمال والجوارح، فهذه هي المحبة التي يتحدث عنها، والتي جاء فيها الحديث: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)، وكذلك من نفسه.

المحبة القلبية هي التي يكون فيها الإيثار والتقديم، فإذا صار مثلاً أمام المؤمن شيئان: أحدهما: محبوب للرسول صلى الله عليه وسلم، يعني: أنه أمر به وجاء به.

والآخر: ليس فيه مصلحة ظاهرة عاجلة له، فإن قدم ما فيه طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم على ما فيه حظ نفسه العاجل، فهذا علامة على أنه يحب الرسول صلى الله عليه وسلم أكثر من محبته المال، وأكثر من محبته لولده وأهله والناس، وهنا ظاهر، والدليل على هذا قوله جل وعلا: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:٣١]، وسبق أن هذه الآية تسمى آية المحنة؛ لأن الله امتحن بها الذين قالوا: إننا نحب ربنا حباً شديداً، فامتحنهم الله جل وعلا بذلك، وأن هذا الحب يصدق بهذه العلامة، وهي علامة ظاهرة وواضحة.

أما أن يصل الإنسان إلى الكمال فهذا ليس بلازم، ما يلزم أنه يصل إلى الكمال، يعني: آحاد الناس لا يمكن أن يكون الحب عنده والإيمان والعمل مثلما كان عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه، أو مثلما كان عند عمر أو عثمان أو علي وأشباههم، فهذا فضل الله يؤتيه من يشاء.

ولهذا كان الإيمان درجات لأجل تفاوت ما في القلوب من هذه المحبة، فالتوقير توقير الله جل وعلا، وتقديره وتعظيمه، ولكن المهم أن الإنسان لا يرتكب الكبائر، ويحافظ على الشيء الذي أوجبه الله عليه، أما الشيء الذي أمر به أمر استحباب فهذا يتفاوت الناس فيه تفاوتاً عظيماً، وليس واجباً على الإنسان أن يفعله، وإن كان فيه فضل.

وقد ذكر الله جل وعلا طبقات الناس الذين يرثون الجنة، فقال: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:٣٢].

فالظالم لنفسه: هو الذي ترك بعض الواجبات.

والمقتصد: هو الذي اقتصر على الواجب وترك المستحبات.

أما السابق بالخيرات فهذا الذي فعل الواجب أولاً، ثم فعل المستحبات ثانياً، وهؤلاء هم أعلى المؤمنين في الدنيا عند الله وفي درجات الآخرة، وليس المعنى أن الإنسان إذا ترك بعض الواجبات أنه يكون خارجاً من الدين الإسلامي لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم)، فإن هذا فيه إشكال عند كثير من الناس، وكثير من شراح الحديث يقول: لا يؤمن الإيمان الكامل، ويحتمل أن المراد به الكامل يعني: الإيمان الذي وجب عليه، وهو كامل وواجب، ويحتمل أنه الكمال المستحب، فإن قال: المستحب فهذا لا يجوز، لماذا؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينفي الإيمان عمن ترك مستحباً لا يعاقب عليه، لا يمكن أن يكون هذا.

فمثلاً الذي حج حجة الفريضة ثم لم يحج بعد ذلك، هل يجوز أن يقال: إنه ليس مؤمناً الإيمان الكامل؟ لا يجوز أن يقال هذ، مع أن الحجة الثانية مستحبة، والمستحبات كثيرة جداً، والناس يتفاوتون فيها تفاوتاً عظيماً.

ولا يمكن أن يأتي بالعبادات مثلما أتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمر الرسول صلى الله عليه وسلم من الكمال، ولا يمكن لأحد من الناس أن يأتي بالأعمال مثلما أتى بها.

فإذاً: الكمال المستحب يتفاوت تفاوتاً عظيماً، ولا يجوز أن ينفى الإيمان عمن لم يفعل الكمال المستحب، وإنما ينفى الإيمان عمن ترك واجباً هو فرض عليه، وهذا كثير في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ينفي الإيمان إما لفعل محرم أو لترك واجب، فمثال ترك الواجب هذا الحديث، ومثال فعل المحرم قوله صلى الله عليه وسلم: (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن).

فنفى الإيمان عنه في هذه الحالة، والمنفي ليس هو أصل الإيمان، وإنما هو الواجب الذي يجب على الإنسان أن يتحلى به، ثم يمنعه من فعل المحرمات؛ لأن من كان عنده إيمان وتحلى به لا يجوز أن يقتحم ما حرمه الله عليه، فإذا فعل ذلك فمعناه أنه زال عنه الإيمان الذي يحبس صاحبه عن الوقوع في المحرمات، وبقي عنده أصل الإيمان، ولكن هذا الأصل لا يقوى على منعه من العذاب ومن دخول النار، ولو فعل هذه الحالة فإن حكمه في الظاهر أنه يدخل النار إذا شاء الله، ثم بعد ذلك ينجيه الله جل وعلا بعدما يتطهر.

ويكثر في الأحاديث وفي النصوص أن أهل الكبائر في النار، كما قال جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:١٠]، ومعروف أن هذه كبيرة، أكل مال اليتيم ما يخرج الإنسان به من الدين الإسلامي، ولا يجعله كافراً، ولكنه يكون مرتكباً لكبيرة، ومتوعداً بالنار، وكذلك آكل الربا والقاتل وغير ذلك مما جاءت به النصوص.

كل نص فيه نفي الإيمان، أو فيه التوعد على فعل محرم بأنه من أهل النار، أو من أهل الفسق، أو إنه ليس من المسلمين أو ما أشبه ذلك، فهذا لأنه ترك واجباً عليه، أو فعل محرماً لا يجوز فعله، فتوعد على ذلك، إيمانه يكون ناقصاً، ولكنه لا يكون زائلاً وخارجاً بالكلية، بل عنده شيء من الإيمان، وبهذا الإيمان الذي عنده يكون له عاقبة السعادة، وإن ناله ما ناله.

ولهذا يكثر العذاب في المسلمين في القبر، وفي الموقف، وفي النار، فإن النصوص جاءت بذكر أناس كثير يعذبون في القبر، وبعضهم لا يكفي عذابه في القبر، بل يستمر عذابه في القبر إلى أن يبعث الله جل وعلا الناس، ثم يزاد عذاباً في الموقف، وبعضهم لا يكفيه ذلك بل يستمر عذابه ويدخل النار، وقد كثرت النصوص في ذكر الشفاعة لإخراج من يدخل النار، وهي لا تكون إلا للمسلمين المؤمنين، ما يمكن أن تكون الشفاعة لكافر؛ لأن الله أخبرنا أن الكفار لا تنالهم الشفاعة، وأنهم لا تنفعهم شفاعة الشافعين، ولا تفيدهم، وإنما تنفع المؤمنين.

فهؤلاء أصحاب الكبائر الذين تركوا واجبات أو ارتكبوا محرمات، وهذا كله يدلنا على تفاوت الإيمان عند الناس، منهم من إيمانه يمنعه من العذاب, ومنهم من يكون إيمانه ضعيفاً لا يمنعه من العذاب فيعذب، ومنهم من يكون إيمانه زائداً على الواجب حتى وصل إلى المستحب، فهذا هو الذي يسبق إلى الجنة؛ لأن حسناته صارت راجحة, بل وزائدة على السيئات زيادة واضحة، فمثل هذا لا يعذب ولا يناله العذاب.