للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[صاحب الذنب معرض للعذاب متوعد بالنار]

[ومن لم يسلم من ظلمه لنفسه كان له الأمن والاهتداء المطلق، بمعنى أنه لابد أن يدخل الجنة كما وعد بذلك في الآية الأخرى، وقد هداه الله تعالى إلى الصراط المستقيم الذي تكون عاقبته فيه إلى الجنة، ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من إيمانه بظلمه لنفسه.

وليس مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (إنما هو الشرك) أن من لم يشرك الشرك الأكبر يكون له الأمن التام والاهتداء التام؛ فإن أحاديثه الكثيرة مع نصوص القرآن تبين أن أهل الكبائر معرضون للخوف، لم يحصل لهم الأمن التام والاهتداء التام اللذين يكونون بهما مهتدين إلى الصراط المستقيم].

إن النصوص من القرآن مثل قول الله جل وعلا: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء:١٠]، وقوله جل وعلا: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء:٩٣]، وكذلك ذكر جل وعلا قوله: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:٢٢ - ٢٣]، ويقول جل وعلا: {إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} [النساء:٣١]، وما أشبه ذلك من النصوص الكثيرة كلها تدل على أن صاحب الذنب معرض للعذاب ومتوعد بالنار، وكذلك أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم، فهي كثيرة جداً في هذا، فلو قيل: إن المقصود بهذه الآية الشرك الأكبر لناقض ذلك هذه النصوص، ونصوص الكتاب مع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم لا تتناقض، بل أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم تفسر الكتاب وتوضحه وتبين مجمله، فيجب أن يجمع بينها وأن يوفق بينها، ولا يضرب بعضها ببعض كما فعل الخوارج الذين حكموا بأن صاحب الذنب كافر، وأنه إذا مات في النار، وهؤلاء في الواقع ضلوا؛ حيث أخذوا جانباً وتركوا الجوانب الأخرى، وهكذا أهل البدع يتمسكون بشيء ويتركون أشياء، وهم يدخلون فيمن يضربون كتاب الله بعضه ببعض، ويؤمن ببعض ويكفر ببعض.

[بل معهم أصل الاهتداء إلى هذا الصراط، ومعهم أصل نعمة الله تعالى عليهم، ولابد لهم من دخول الجنة، وقوله: (إنما هو الشرك) إن أراد الأكبر فمقصوده أن من لم يكن من أهله فهو آمن مما وعد به المشركون من عذاب الدنيا والآخرة، وإن كان مراده جنس الشرك يقال: ظلم العبد نفسه كبخله -لحب المال- ببعض الواجب هو شرك أصغر، وحبه ما يبغضه الله تعالى حتى يقدم هواه على محبة الله شرك أصغر، ونحو ذلك].

يعني أن الذنوب كلها تدخل في الشرك الأصغر، فإذا كان كذلك دخلت الذنوب في قوله: (الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم)، وهذا من باب اللزوم.

[فهذا فاته من الأمن والاهتداء بحسبه، ولهذا كان السلف يدخلون الذنوب في هذا الشرك بهذا الاعتبار.

انتهى ملخصاً].

قال الشارح: [وقال ابن القيم رحمه الله تعالى: قوله: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ} [الأنعام:٨٢] قال الصحابة: وأينا -يا رسول الله! - لم يلبس إيمانه بظلم؟ قال: (ذلك الشرك، ألم تسمعوا قول العبد الصالح: {إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان:١٣])، فلما أشكل عليهم المراد بالظلم فظنوا أن ظلم النفس داخل فيه، وأن من ظلم نفسه -أيَّ ظلم كان- لم يكن آمناً ولا مهتدياً أجابهم صلوات الله وسلامه عليه بأن الظلم الرافع للأمن والهداية على الإطلاق هو الشرك، وهذا والله هو الجواب الذي يشفي العليل ويروي الغليل؛ فإن الظلم المطلق التام هو الشرك الذي هو وضع العبادة في غير موضعها].

إن الظلم تفسيره عند أهل السنة هو وضع الشيء في غير موضعه، وقد فسره الأشاعرة وغيرهم بأنه التصرف في ملك الغير بغير إذنه، وهذا خطأ، ولهذا قالوا: إن أي شيء يفعله الله جل وعلا ليس ظلماً؛ لأن كل شيء هو ملك له، فلو خلد الطائع طول عمره في النار لا يكون ذلك ظلماً؛ لأن العباد كلهم عبيده، وكلهم ملكه يتصرف فيهم كيف يشاء، ولو جعل الكافر الذي يقتل الدعاة الذين يدعون إلى الله في الجنة ما كان ذلك ظلماً، ولا كان ذلك فيه اختلاف الحكمة؛ لأنه ملكه يتصرف فيه كيف يشاء، وقد أخبر الله جل وعلا أنه لا يجعل المجرمين كالمسلمين، وأن هذا لا يقع في حكمه، وأخبر جل وعلا أنه ليس بظلام للعبيد، وفي الحديث الذي يرويه الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه -كما في صحيح مسلم -: إن الله جل وعلا يقول: (إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً)، فما معنى تحريم الظلم؟ فهل كونه حرم الظلم على نفسه جل وعلا، معناه: حرم التصرف في ملكه؟! لا يمكن.

فإنما الصواب في تعريف الظلم أنه وضع الشيء في غير موضعه.

كما في لغة العرب.

وهو تعريفه في الشرع، فإذا جعل على المطيع ذنوباً لم يعملها كان هذا ظلماً، وإذا أُخذت حسناته وأعطيت غيره بغير جرم فعله كان هذا ظلماً، وهذا لا يقع من الله جل وعلا، بل هو الذي حرمه الله جل وعلا على نفسه، والظلم هو وضع الشيء في غير موضعه، وليس التصرف في ملك الغير بغير إذنه كما يقوله أهل البدع ويفسرون به الظلم.

قال الشارح رحمه الله: [والأمن والهدى المطلق هما الأمن في الدنيا والآخرة والهدى إلى الصراط المستقيم، فالظلم المطلق التام رافع للأمن وللاهتداء المطلق التام، ولا يمنع أن يكون الظلم مانعاً من مطلق الأمن ومطلق الهدى، فتأمله.

فالمطلق للمطلق والحصة للحصة.

انتهى ملخصا].

قوله: (فالمطلق للمطلق) يعني: إذا جاء بالإيمان الكامل المطلق فله الأمن المطلق الكامل، وإذا أتى بإيمان غير مطلق -أي: بإيمان مقيد بالمعصية بأن يكون عاصياً- فله أمن مقيد، وليس له الأمن التام والاهتداء التام المطلق.