[حكم الاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم]
قال الشارح رحمه الله تعالى: [وأدباً وتواضعاً لربه، وتحذيراً للأمة من وسائل الشرك في الأقوال والأفعال، فإذا كان هذا فيما يقدر عليه النبي صلى الله عليه وسلم في حياته، فكيف يجوز أن يستغاث به بعد وفاته، ويُطلب منه أمور لا يقدر عليها إلَّا الله عزَّ وجلَّ؟!].
يعني: كالذي يطلب منه أن يرزقه، أو يغفر ذنبه، أو يأخذ بيده يوم القيامة وينجيه من عذاب الله، أو يحميه من غضب الجبار جلَّ وعلا، أو -مثلاً- أن يزيل المرض الذي فيه، وما أشبه ذلك مما يقع كثيراً من الناس، فإن هذا من الشرك الأكبر، نسأل الله العافية، أو -مثلاً- كالذي يأتي ويقول: يا رسول الله! اشفع لي، يا رسول الله! أنا بحسبك، يا رسول الله! أنا داخل عليك أريد منك الشفاعة، وما أشبه ذلك، فإن هذا شرك؛ لأن هذا يجب أن يُطلب من الله جلَّ وعلا، والشفاعة لله وليست للرسول صلى الله عليه وسلم، ولكي تقع الشفاعة لابد من شيئين: أولهما: أن يأذن الله للشافع أن يشفع.
والثاني: أنه يحد له حداً، ويقول: هؤلاء اشفع فيهم.
وسيأتي أن الشفاعة معناها وحقيقتها: إظهار كرامة الشافع؛ إذا أراد الله جلَّ وعلا رحمة المشفوع فقط، هذه هي حقيقة الشفاعة.
وإلَّا فالأمر كله لله: {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعَاً} [الزمر:٤٤] {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:٢٥٥] {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:٢٨]، فالتعلق بغير الله -وإن كان من أوليائه، وإن كان من أقرب المقربين إلى الله- لا يجوز؛ لأن الملك كله لله، والأمر كله لله، فالعبادة كلها لله، ولا يجوز أن يكون الذل والخضوع، والتعظيم والخشية، والإنابة والخوف والرجاء، والرغبة والرهبة، والتوبة وغير ذلك من أنواع العبادة إلَّا لله وحده فقط، وكثيراً من الشعراء يأتي بأشعار صريحة في الشرك في دعوة الله جلَّ وعلا، كما يقول القائل: يا أكرم الخلق ما لي من ألوذ به سواك عند حلول الحادث العممِ إن لم تكن في معادي آخذاً بيدي فضلاً وإلَّا فقل: يا زلة القدمِ! فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلمِ ولن يضيق رسولَ الله جاهُك بي إذا الكريمُ تحلى باسم منتقمِ إلى غير ذلك من ألفاظ الشرك، ويقول في قصيدة أخرى بعد أن ذكر عن نفسه أنه أنشدها وهو مكشوف الرأس، أمام قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنه أنزل به فاقته وفقره، وأنزل به الشكوى من أعدائه، يقول: هذه علتي وأنت طبيبي ليس يخفى عليك في القلب داءُ هكذا يخاطب الرسول صلى الله عليه وسلم، فماذا يبقى لله إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا يخفى عليه في القلوب داء؟! وكان من جوده: الدنيا والآخرة، وكان من جملة علومه: علم اللوح والقلم!! اللوح المحفوظ الذي فيه كل شيء، والقلم الذي قال له جلَّ وعلا: (اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة)، ثم الاستغاثة به: ولن يضيق رسولَ الله جاهُك بي إذا الكريمُ تحلى باسم منتقمِ يقول: إذا غضب الله يوم القيامة غضباً -لم يغضب مثله قبله، ولن يغضب مثله بعده- فأنا لائذ بك، لا يضيق جاهك بي، احمني من هذا الغضب.
فهل هذا يتناسب مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم لأقرب الناس إليه: (يا صفية عمة رسول الله! لا أغني عنك من الله شيئاً، ويا فاطمة بنت محمد! سليني من مالي ما شئتِ، لن أغني عنك من الله شيئاً) فهل هذا يتناسب مع ذلك؟! وهل هذا يتناسب مع قول الله جلَّ وعلا: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} [آل عمران:١٢٨]؟! وهو صلوات الله وسلامه عليه الذي علم أمته التوحيد، ونهاهم عن التعلق بغير الله جلَّ وعلا.
فالمقصود: أن الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم وبمن دونه لا تجوز، وإنما الجائز منها ما كان في حياته وبمقدوره أن يغيث، أما إذا كان المستغاث به غائباً بعيداً أو كان ميتاً فهذا لا يجوز منه كثير ولا قليل؛ لأن هذا من حقوق الله وحده؛ ولأن الذي يعلم الغيب ويطلع على كل شيء هو الله، والذي يقدر على كل شيء هو الله جلَّ وعلا، وهو الذي إذا استغاث به المستغيث أغاثه؛ إذا كان صادقاً وخالصاً في دعوته، مقبلاً على الله، حتى وإن كان مشركاً، بشرط أن يكون صادقاً في استغاثته -أعني: أنه لجأ إلى الله لجوءاً صحيحاً وصدق في ذلك- ولهذا أخبر الله جلَّ وعلا أنه يغيث المشركين: {أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ} [النمل:٦٢] المضطر من المشركين ومن الكفار؛ لأن هذا مقتضى ربوبيته جلَّ وعلا، فهو رب الخلق جميعاً، والرب هو الذي يمدهم بما فيه حاجتهم، ويقوم على مصالحهم، وإن كانوا غير عابدين له؛ لأنه جلَّ وعلا حليم، حلمه يسع العصاة والكفرة، ولأنه جلَّ وعلا لا يعجل؛ ولأنه إذا أعطاهم لا ينقصه ذلك شيء، فالمآل إليه: {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ} [الغاشية:٢٥ - ٢٦] والمرجع إليه، ثم يحاسبهم على ذلك، والحياة قصيرة، فلهذا أمر الله جلَّ وعلا رسله أن يمهلوا الكفار: {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدَاً * وَأَكِيدُ كَيْدَاً * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدَاً} [الطارق:١٥ - ١٧].
يعني: قليلاً قليلاً، وزمنهم الذي يُمهلون فيه قليل، وسوف يكون مآلهم بعده إلى الله جلَّ وعلا، فالأمر كله بيد الله جلَّ وعلا، وليس لأحد معه شيء، فيجب أن يكون الإنسان عبداً لله وحده، عبداً لربه، ولا يكون عبداً لعبيد من عباد الله جلَّ وعلا، ولهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم إذا واجهوا الكفار في قتال وسألوهم: ما الذي جاء بكم من بلاد العرب؟ يقولون لهم: (جئنا لنخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب الناس)؛ لأن الناس يستعبد بعضهم بعضاً، ولا يزال ذلك موجوداً، فترى بعضهم أرباباً وبعضهم عبيداً يستعبدون، وإنما يخرج الإنسان من عبادة الخلق إذا أخلص العبادة لله جلَّ وعلا، وأخبر سبحانه أن العزة للمؤمنين، وأن العزة بعبادته وحده: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعَاً} [فاطر:١٠] فالواجب على الإنسان أن يعرف حق الله عليه، ويميز بين حق الله وحق الرسول صلى الله عليه وسلم، فحق الرسول صلوات الله وسلامه عليه: محبته، وتقديم محبته على محبة الأنفس -فضلاً عن الأولاد والمال والناس- أن تحبه أكثر من محبتك لنفسك؛ ومحبته صلى الله عليه وسلم ينبغي أن تكون كذلك؛ لأنه جاءك بالنور من الله؛ فأخرجك به من الظلمات، وخلصك من شبكات الهلكة إلى سبيل الله الذي يوصلك للجنة، ففضله عليك عظيم جداً، وكذا تحبه لأن الله جلَّ وعلا يحبه، فأنت تحب ما يحبه محبوبك، أما أن تكون المحبة مع الله فهذا شرك؛ لأن محبة الله محبة ذل وخضوع وتعظيم، أما محبة الرسول صلى الله عليه وسلم فهي محبة لله وفي الله، تحبه لأن الله يحبه، ولأنه بيَّن لك طريق المحبة الواجبة عليك لله جلَّ وعلا.
وكذلك من حقوقه عليك: اتباعه فيما قال وأمر، وتصديقه في جميع ما أخبر به، وأن تدعو إلى سنته ودينه، وأن تخلص في ذلك، وأن تجتهد في أن تكون ممن سلك سبيله وترسم خطاه، ولهذا يقول الله جلَّ وعلا: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران:٣١]، فباتباعه صلى الله عليه وسلم تحصل محبته ومحبة الله جلَّ وعلا.