للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كلمة التوحيد مع الإخلاص منجاة لصاحبها من النار]

ثم في هذا الحديث من المعاني ما يدل -فضلاً على ما تقدم- على عظم هذه الكلمة، وأن المخلوقات كلها لو وضعت في كفة ميزان مَنْ في السماوات ومن في الأرض، ثم وضعت هذه الكلمة في كفة أخرى لرجحت هذه الكلمة، ولكن ليس من كل أحد، وإنما ممن قالها صادقاً مخلصاً موقناً عالماً عاملاً بما تقتضيه وتدل عليه، فإذا صدرت ممن هذه صفته فلا يقاومها شيء.

وقد جاء في سنن الترمذي، وفي المسند، وغيرهما كصحيح ابن حبان، وغيرها من كتب الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه أخبره أنه يصاح برجل من أمته يوم القيامة على رؤوس الناس وهم مجموعون في مكان واحد، يعني يدعى باسمه: يا فلان بن فلان! هلم تعال.

فيأتي والناس ينظرون إليه.

وإتيانه هنا إما أن يكون فضيحة يفضح بها على رؤوس الناس، أو يكون شرفاً وذكراً وفضلاً وسعادة يسعد بها تنشر في العالم كله من أولهم إلى آخرهم، فيؤتى به، فإذا حضر بين يدي الله نشر له تسعة وتسعون سجلاً، والسجل كتاب مسجل عليه، أي: تسعة وتسعون كتاباً، وأما كبره وطوله فالله أعلم.

فيقال له: أتنكر من هذا شيئاً؟ -وكل أعماله سيئات من أولها إلى آخرها- فيقول: لا يا رب، هذه أعمالي.

فيقول الله جل وعلا له: أظلمتك الكتبة؟ فيقول: لا يا رب.

فيقول: ألك عذر؟ فيقول: لا.

فيقول الله جل وعلا له: ألك حسنة؟ فيهاب ويقول: لا.

فيقول الله جل وعلا: بلى.

إن لك عندنا حسنة واحدة فيخرج له بطاقة صغيرة مكتوب فيها: أشهد ألا إله إلا الله.

فيقول: يا رب! ما هذه البطاقة أمام هذه السجلات -أي ماذا تصنع-؟ فيقال: إنك لا تظلم شيئاً.

ويؤتى بالميزان فتوضع السجلات في كفة الميزان وتوضع البطاقة في الكفة الأخرى فتطيش السجلات وترتفع وتثقل البطاقة بهذه السجلات الكثيرة، فهي كلمة واحدة رجحت بهذه السئات المسجلة في تسعة وتسعين كتاباً كل كتاب مملوء.

وهذا يكون لأفراد، ويجوز ألا يكون لرجل واحد، فيكون له نظراء على هذا المنوال، ولكن قد صحت الأحاديث الكثيرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن كثيراً ممن يقول لا إله إلا الله يدخل النار ويبقى فيها وقتاً طويلاً وهو في النار تأكله، ومنهم من يكون حمماً يحترق فيها، ومنهم من يبقى أثر السجود لا تأكله النار، وكل أهل الإسلام واتباع الرسل يقولون هذه الكلمة، وكثير منهم يدخلون النار مع قولهم هذه الكلمة، وخروجهم من النار يتفاوت تفاوتاً عظيماً، ومنهم من تأخذه النار إلى كعبيه فقط، ومنهم من تأخذه النار إلى ركبتيه، ومنهم من تأخذه النار إلى حقويه، ومنهم من تأخذه النار إلى ثدييه، ومنهم من تأخذه إلى رأسه وترقوته، ومنهم من يكون في النار في غمرات النار مغموراً فيها، وكله على تفاوت الأعمال، وكلهم يقولون: (لا إله إلا الله)؛ لأن الذي لا يقولوها لا يكون مسلماً أصلاً.

ثم إخراجهم من النار يتفاوت تفاوتاً عظيماً، فمنهم من يغمس فيها غمسة ويخرج، ومنهم من يبقى مدة طويلة كعمر الدنيا منذ خلقت إلى أن تنتهي، ومنهم من هو أقل من ذلك، حسب جرائمهم مع قولهم هذه الكلمة، فدل هذا على تفاوت الناس في قولها، وكل التفاوت يرجع إلى ما يكون في القلوب من العلم واليقين والإخلاص، ويتبع ما في القلب العمل.

فالذي يقولها بعلم وصدق وإخلاص ومحبة وقبول واستسلام لا يمكن أن يكون محباً لمعصية أو مخالفاً لأمر الله وهو يقدر، أو تاركاً لواجب من واجبات الله وهو يستطيعه، بخلاف الذي يقولها بلسانه؛ فإنه قد يقولها وهو يشرب الخمر، وقد يقولها وهو يزني، وقد يقولها وهو يأكل أموال الناس بالإثم والباطل، ويقولها وهو يحارب أولياء الله وربما يشتمهم ويلعنهم، إلى غير ذلك.

فالمقصود أن معرفة هذه الكلمة والعمل بما دلت عليه هو الذي يتفاوت فيه أهل الإسلام في الدرجات يوم القيامة، وقد أخبر الله جل وعلا في كتابه أن أهل الجنة أقسام ثلاثة: قسم ظالم لنفسه، وقسم مقتصد، وقسم سابق بالخيرات بإذن الله، فقال الله جل وعلا: {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} [فاطر:٣٢]، ففُسر الظالم لنفسه بمن يفعل بعض المنكرات ويترك بعض الواجبات، فيفعل بعض المحرمات التي حرمت عليه ويترك بعض ما أوجبه الله عليه، ولكنه ملتزم بـ (لا إله إلا الله ومعناها)، ولكنه مقصر في الفهم والعلم والعمل، فهذا ظالم لنفسه.

والقسم الثاني: المقتصد.

والمقتصد هو الذي اقتصر على فعل ما أوجبه الله عليه وامتنع عن فعل ما حرمه الله عليه، ولم يتقرب إلى الله جل وعلا بالنوافل والمستحبات وباجتناب المكروهات، بل يفعل المكروه ولا يفعل المستحب، فاقتصر على فعل الواجب وترك المحرم، ومثاله الذي يقيم الصلوات الخمس ويؤدي زكاة ماله بعد كونه لا يعبد غير الله، ويصوم شهر رمضان فقط، وحج في عمره مرة واحدة فقط.

فإذا تمسك بهذه الأمور الخمسة التي هي أركان الإسلام الخمسة فهو من أهل الجنة بلا شك، ولكن تفوته الدرجات في الجنة؛ لأن الدرجات تقتسم بالأعمال، فمن كان عمله أزكى وأكثر فدرجته أرفع عند الله جل وعلا، ولا يجوز للمسلم أن ينافس غيره في الدنيا في المال وأمور الدنيا، أو العمارات وحسنها، أو السيارات، أو ما أشبه ذلك فلا يريد أن يكون غيره أحسن منه بيتاً، ولا أكثر منه مالاً، ولا أحسن منه مركباً وما أشبه ذلك ويترك منافسة المؤمنين في الدرجات العالية يوم القيامة، فهذا لا ينبغي، وهذا من الخسارة.

أما القسم الثالث فهم الذين يسبقون إلى الدرجات العالية، بأن يتقربوا إلى الله جل وعلا بعد أداء الفرائض بالنوافل التي لم تجب، ويتقربون إليه جل وعلا بعد اجتناب المحرمات باجتناب المكروهات التي يخشى أحدهم أنه يكون فيها مترخصاً أو متبعاً نفسه شهواتها ولو في بعض الأشياء.

وقد جاء عن السلف تحذيرهم من كون الإنسان يتتبع الشهوات وإن كانت مباحة، كما جاء عن عمر رضي الله عنه أنه رأى رجلاً يشتري لحماً فقال: أوكلما اشتهيتم شيئاً اشتريتموه؟! لقد ذكر الله قوماً فنعى عليهم بأنهم أذهبوا طيباتهم في حياتهم الدنيا.

أما إذا خرج الناس عن هذه الأقسام الثلاثة فمعنى ذلك أنهم من أهل النار، فالظالم لنفسه ليس معنى ذلك أنه يدخل الجنة من أول وهلة، بل إما أن يعذب في الدنيا فيكون ذلك كفارة له، كأن يصاب بمصائب وكوارث تكفر عنه، وهذا من حظه إذا حصل له ذلك، وأما إذا لم يصب في الدنيا فقد تكون مصائبه في القبر بأن يعذب في قبره، وقد لا يكفي تعذيبه في قبره فيمتد العذاب إلى أن يبعث، ثم يعذب في الموقف وشدائده؛ لأن الوقوف في الموقف يتفاوت على حسب أعمال الناس، فمنهم من يكون عليه كألف سنة، ومنهم من يكون عليه كخمسين ألف سنة وهو واقف على قدميه، ومن يطيق هذا؟ فهو وقوف لا يوجد معه جلوس، ومع ذلك هو عريان ليس عليه ثوب ولا نعال، ولا هناك ظل يستظل به، والشمس واقفة فوق رأسه، ومنهم من يكون وقوفه كأنه ساعة، والعجيب أن منهم من يأكل ويشرب والناس في شقاء وفي عذاب.

فتفاوت الناس في الموقف أمره على حسب أعمالهم، ثم منهم من لا يكفيه ذلك، فلابد أن يدخل النار ويطهر؛ لأن هذه الأمور التي مرت عليه وهذه النيران نار عذاب القبر ونار الموقف ما كفت في تطهيره، فلابد أن يدخل جهنم حتى يطهر وتأكل الخبث منه، فكل الخبث الذي في جسده تأكله النار حتى يخلص ويكون صالحاً لدخول الجنة، ثم بعد ذلك يخرج، والأمر ليس سهلاً، الأمر صعب جداً، ولكن في الواقع كأننا لا نعنى بذلك، فكأن المعني غيرنا، وكأننا خلقنا لشيء آخر وإنما يراد بذلك قوم آخرون، وكما قيل: ستعرف إذا انجلى الغبار أفرس تحتك أم حمار فهل أنت شقي أو سعيد؟ وهذا قريب جداً، وما بين الإنسان وبينه إلا أن يقال: مات فلان.

وما أقرب ذلك، فإذا مات الإنسان فقد قامت قيامته؛ لأن عمره الذي يكتسب به العمل انقطع وانتهى، ولهذا كان السلف يبكون البكاء الشديد المر المؤلم الذي يمنعهم من الأكل والشرب والنوم، ويقول أحدهم: أنا خلقت للجنة أو النار فما أدري ما مصيري.

ويقول آخر: إني عبارة عن أنفاس وأيام، فإذا انقضت انقضى عملي، فمن يصلي لي؟ ومن يذكر عني؟ ومن يدعو الله عني؟ لأنه ليس للإنسان إلا ما سعى، فلابد للإنسان أن يفكر في هذه الأمور، ولهذا يقول لنا الناصح الأمين صلوات الله وسلامه عليه: (لا تنسوا العظيمتين الجنة والنار)، ولابد لنا منهما، لابد لنا من واحدة منهما، فهل نصل إلى الجنة سالمين أو نحبس في جهنم أبد الآبدين؟ العلم عند الله، والإنسان لا يستطيع أن يعمل لنفسه على حسب إرادته، فلابد أن يتعلق بالله جل وعلا ويسأله دائماً بفقر وإلحاح وحاجة لا ينفك عنها أبداً.

ثم إن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن أخف أهل النار عذاباً الذي يبقى في النار أبداً، وهو رجل يجعل في أخمصه جمرة من النار يغلي منها دماغه، فهذا هو أخف أهل النار عذاباً، فيطأ على جمرة من جمرات جهنم ولكنه يغلي من هذه الجمرة دماغه، وهو أبو طالب عم الرسول صلى الله عليه وسلم جزاء إحاطته لرسول الله صلى الله عليه وسلم ودفاعه عنه، ولكنه لا يخرج من النار، ويرى أنه أشد الناس عذاباً وهو أهونهم، فهو في نفسه يرى أنه أشد أهل النار عذاباً وهو أهونهم عذاباً، فهذا هو أهون أهل النار عذاباً -نسأل الله العافية- فكيف بالذي يكون في طبقات جهنم؟ قال تعالى: {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ * الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ * يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ * كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ * إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُوصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ} [الهمزة:١ - ٩].

أي: مغلقة الأبواب، وموضوع عليها عمد من حديد ممددة فهي أعمدة من حديد، فهل يستطيعون أن يخرجوا من الأبواب؟ أبداً.

ولو لم توضع هذه الأعمدة، ولكن نكالاً وإبلاغاً في النكاية بهم