للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

نهي السلف للقُصاص عن القص، وسبب ذلك

قال الشارح رحمه الله: [وقد كان أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه ينهى القصاص عن القصص؛ لما في قصصهم من الغرائب والتساهل في النقل وغير ذلك، ويقول: (لا يقص إلا أمير أو مأمور)، وكل هذا محافظة على لزوم الثبات على الصراط المستقيم علماً وعملاً ونية وقصداً، وترك كل ما كان وسيلة إلى الخروج عنه من البدع ووسائلها، والله الموفق للصواب ولا حول ولا قوة إلا بالله].

قال المصنف رحمه الله رحمةً واسعة: [وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رأى رجلاً انتفض لما سمع حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم في الصفات استنكاراً لذلك، فقال: ما فَرَق هؤلاء؟ يجدون رقة عند محكمه ويهلكون عند متشابهه! انتهى].

المقصود بالقصص الذي ذكر بأنه يُنهى عنه وأنه لا يقصه إلا أمير أو مأمور مثل الخطب والمحاورات التي تُلقى على العامة؛ لأن هذه يكون فيها تساهل في ذكر الأشياء والنقل، وقد يُقصد بها الأمور التي تعجز الناس ويكون ليس لها أصل، وهذا غالب على الوعاظ؛ فإنهم يذكرون الأحاديث الضعيفة أو الموضوعة، ويذكرون القصص عن الأولين وما فيها من الغرائب، مثل المنامات والحكايات التي تكون فيها مخالفة لما ثبت في كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم يترتب على ذلك اعتقاد ما في هذه القصص؛ لأن السامع لا يفرق بين ما هو ثابت وما ليس بثابت، ولهذا ينهى عن مثل هذه الأشياء حفاظاً على عقائد المسلمين أن تتغير بهذه الأمور، وإذا كان الذي يقص غير مأمور فمعنى ذلك أنه مختار، وأنه يستطيع أن يميز بين الضار والنافع، فإذا كان هذا الذي يقص من قبل نفسه غير أهل لهذا الأمر فإنه ينهى عنه.

أما إذا كان مأموراً من قبل المسئول ولي الأمر فإن في الغالب أن يكون أهلاً لذلك، فيعرف كيف يقص، ويعرف الذي يكون ثابتاً من الذي يكون غير ثابت، وكذلك إذا كان أميراً فهو كذلك من هذا القبيل يكون عارفاً بالأمور التي يقصها والتي تنفع من التي لا تنفع، هذه هي صفة الوضع في الزمن المتقدم، ومثل ذلك الكتب التي تؤلف في المواعظ والقصص والحكايات، فإن فيها كثيراً مما لا يجوز اعتقاده؛ لهذا لا ينبغي أن يقرأها الذي لا يميز بين الصحيح من غيره، ولا يجوز أن يقرأها، وإذا قرأها فيجب أن يكون عنده من يميز ذلك لئلا يعتقد باطلاً.

أما الحديث الذي ذكره عن عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس أنه ذكر حديثاً فانتفض رجل عنده فقال: (ما فَرَقُ هؤلاء؟ يجدون رقة عند محكمه ويهلكون عند متشابهه!) فقوله: (ما فَرَقُ) هكذا جاء من باب الاستفهام، و (الفَرَقُ) هنا معناه: الخوف والجزع، وجاء في رواية: (ما فرّق هؤلاء) فتكون (ما) نافية، ويجوز في الراء أن تكون مشددة ويجوز أن تكون مخففة: (ما فرَق هؤلاء؟) و (ما فرَّق هؤلاء)، وعلى الرواية الأولى تكون (ما) استفهامية، وعلى الثانية تكون (ما) نافية، والمعنى على الأولى أنه استفهام من باب النهي، وأن هؤلاء إذا جاءهم من النصوص ما هو محكم وواضح يجدون رقه في قلوبهم ويجدون خشوعاً، أما إذا جاء منها شيء متشابه عليهم فإنهم يهلكون، ومعنى (يهلكون) أنهم يكذبون بها أو يردونها؛ لأن هذا الذي انتفض انتفض إنكاراً لما سمع وهو حق؛ لأنه استعظم إما لأنه لم يألفه أو أن قلبه لم يستوعبه ويدرك معناه، فصار كبيراً عنده، ففرق منه، أي: خاف وحصل له ما حصل.

وبذلك يكون رد حقاً فيهلك في هذا، والمعنى على الرواية الثانية: أنهم ما فرقوا بين الحق والباطل، وبين الذي يجب أن يُقبل وبين الذي يجب أن يُرد، والذي يكون عنده فرقان هو الذي يعلم ويتعلم ويعرف ويسلك الطريق الحق، وليس معنى هذا أن هناك في النصوص شيء متشابه لا يفهم ولا يعرف؛ لأنه لم يرد في كتاب الله جل وعلا إلا ما هو معلوم للمخاطب، حيث خاطبنا ربنا جل وعلا بقرآن عربي مبين وواضح، وليس فيه شيء لا يُفهم.