للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[السبل التي تعترض الصراط المستقيم، وأنواع الصراط]

قال الشارح رحمه الله: [وقوله تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:١٥٣]، قال القرطبي: هذه آية عظيمة عطفها على ما تقدم، فإنه نهى وأمر وحذر عن اتباع غير سبيله على ما بينته الأحاديث الصحيحة وأقاويل السلف، و (أن) في موضع نصب، أي: (أتلو أن هذا صراطي) عن الفراء والكسائي، ويجوز أن يكون خفضاً أي: (وصاكم به، وبأن هذا صراطي)، قال: والصراط: الطريق الذي هو دين الإسلام.

(مستقيماً) نصب على الحال، ومعناه: مستوياً قيماً لا اعوجاج فيه.

فأمر باتباع طريقه الذي طرقه على لسان محمد صلى الله عليه وسلم وشرعه ونهايته الجنة وتشعبت منه طرق، فمن سلك الجادة نجا، ومن خرج إلى تلك الطرق أفضت به إلى النار، قال الله تعالى: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} [الأنعام:١٥٣] أي: تميل.

انتهى.

وروى الإمام أحمد والنسائي والدارمي وابن أبي حاتم والحاكم -وصححه- عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً بيده، ثم قال: هذا سبيل الله مستقيماً.

ثم خط خطوطاً عن يمين ذلك الخط وعن شماله، ثم قال: وهذه سبل ليس منها سبيل إلا وعليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام:١٥٣] الآية)، وعن مجاهد: {وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ} [الأنعام:١٥٣] قال: البدع والشهوات].

هذا الحديث الذي ذكره عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدلنا على أن الحق واحد لا يتعدد، بخلاف الباطل فإنه متعدد وكثير، ولهذا جعل طريق الله خطاً واحداً، فقال: (خط خطاً واحداً مستقيماً فقال: هذا صراط الله.

ثم خط خطوطاً عن يمينه وعن شماله فقال: هذه سبل، ليس منها سبيل إلا وعليه شيطان يدعو إلى الله).

أي: إذا سلكه الإنسان أفضى به إلى النار، وهذا يدلنا على أنه ليس هناك طريق إلى الجنة ونجاة للإنسان إلا بالسير خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، ولا يوجد غير هذا، فإن سار الإنسان خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقبل ما جاء به واهتدى به عملاً واعتقاداً وقولاً فهو الناجي الذي يكون سعيداً في الدنيا والآخرة، أما إذا مال يميناً وشمالاً عن هذا الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فسوف تتولاه الشياطين وتسلك به المسالك التي تهوي به إلى النار -نسأل الله العافية-، ولهذا وضح الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك بالخطوط.

ثم بين صراط الله الذي وصانا الله باتباعه في قوله: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ} [الأنعام:١٥٣]، وأمر الله واجبٌ الأخذ به، وقد جاءت عبارة السلف في تفسيره مختلفة الألفاظ متفقة المعاني، فمنهم من قال: صراط الله: كتاب الله القرآن.

ومنهم من قال: صراط الله: ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الكتاب والسنة، ومنهم من قال: صراط الله: الإسلام.

وهذا كله حق، وكله يؤول إلى شيء واحد، وأن الصراط الذي أمرنا جل وعلا بالتمسك به واتباعه وسلوكه هو ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من القرآن ومن السنة ومن كل ما أُمرنا به، وهذا الصراط معنوي أوجب ربنا جل وعلا أن نسلكه، وهو الذي أوجب علينا في كل ركعة من ركعات الصلاة أن نبتهل إليه ونسأله أن يهدينا هذا الصراط: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ} [الفاتحة:٦ - ٧]، وهذا فرض على الإنسان إذا صلى أن يسأل ربه أن يهديه هذا الصراط، وكثير من المفسرين يقول: معنى (اهدنا الصراط): ثبتنا عليه.

والواقع أن هذا فيه شيء من القصور؛ لأن الإنسان لا تكمل هدايته كما ينبغي حتى يضع أول قدم له في الجنة، وأما قبل أن يدخل الجنة فهو بحاجة إلى هداية دائماً، وبحاجة إلى زيادة من الهداية، فهو في الدنيا يحتاج إلى زيادة يقين وإيمان، ويحتاج إلى زيادة عمل يرضي ربه جل وعلا به، وكذلك في الآخرة يحتاج إلى زيادة تثبيت أن يثبته الله جل وعلا بالقول الثابت، كما قال الله جل وعلا: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} [إبراهيم:٢٧] يعني: عند السؤال.

وليس كما يقول بعض الناس: إن الآخرة ليست محل تكليف، فإذا مات الإنسان انتهى تكليفه، بل ما دام الإنسان لم يدخل الجنة والنار فهو في محل يبتلى ويسأل ويمتحن، فيثبت الله جل وعلا من يشاء، ويضل من يشاء، فالسؤال في القبر افتتان يفتتن الإنسان به، وكذلك في المواقف التي تسمى عرصات القيامة، ولهذا يختلف الناس فيها اختلافاً عظيماً من شدة أو سهولة فيما يلاقونه، فمن كانت -مثلاً- ذنوبه كثيرة اشتد الأمر عليه فيكون ذلك جزاء له، ومنهم من يأكل ويشرب والناس يحاسبون، ومنهم من يكون في ظل العرش والناس في حر الشمس، وكل هذا من التكليف، ثم قد قص الله جل وعلا علينا قصص بعض عباده، وأن من الناس من إذا سألهم الله جل وعلا: ماذا كنتم تعبدون؟ ولماذا أشركتم؟ قالوا -كما حكى الله عنهم-: {وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام:٢٣]، فيقسموا بالله ما كانوا مشركين وهم مشركون، فيقول الله: {انظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ} [الأنعام:٢٤] وكذلك يقول الله جل وعلا: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة:١٨]، أي: يحلفون لله يوم القيامة كذباً، كما يحلفون للناس اليوم؛ لأنهم جعلوا الحلف جُنة يجتنون به ويستترون به عما قد يعود عليهم باللوم أو بالضرر أو بالعقاب أو بغير ذلك، فليس الأمر على إطلاقه أن الآخرة ليست دار تكليف، نعم الجنة ليست دار تكليف، فإذا دخلوا في الجنة فليس فيها تكليف، وإنما يلهمون التسبيح والتهليل كما يلهمون النفس ثم إن الصراط المعنوي هذا الذي أمرنا بالتمسك به واتباعه، فإذا تمسكنا به ثبتت أقدامنا على الصراط الحسي الذي هو الطريق إلى الجنة، وهو جسر ينصب فوق جهنم لا يوجد أحد ينجو من النار إلا من فوقه، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} [مريم:٧١]، وقد جاء وصفه بأنه فوق متن النار، أحر من الجمر، وأحد من السيف وأروغ من الثعلب.

إذاً: السلوك يكون بالعمل، فمن الناس من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر مثل البرق إذا برق، ومنهم من يكون مثل الريح، ومنهم من يكون مثل جواد الخيل، ومنهم من يركض ركضاً، ومنهم من يحبو، ومنهم من يقوم ويسقط، ومنهم من تخطفه الخطاطيف التي تكون عليه وتلقيه في النار.

وأنس بن مالك رضي الله عنه خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم بقي يخدمه منذ أن قدم المدينة إلى أن توفاه الله جل وعلا، فسأله الشفاعة، فقال: (أنا فاعل إن شاء الله، فقال: أين أجدك؟ قال: اطلبني في ثلاثة أماكن: عند الحوض، فإن لم تجدني فعند الميزان، فإن لم تجدني فعند الصراط) فعند الصراط لا يوجد أحد يتكلم إلا الرسل؛ لأن الرسل يقفون ينظرون مرور أممهم، وكلامهم: اللهم سلم سلم! أما الناس كلهم فهم سكوت، ولا يوجد أحد يتكلم لشدة الأمر وهوله، وتحتهم جنهم تتلظلى، والسلوك على طريق وعر جداً، وعر لا يمكن يُسلك إلا بالعمل، فمن ثبته الله وكان مستقيماً على هذا الصراط الذي هو الإسلام نجا وإلا زلت به قدمه وهوى، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: (والصراط عليه كلاليب مثل شوك السعدان -ثم يقول لأصحابه- هل رأيتم السعدان؟ إنها شويكة في عشبة تخرج في نجد)، تكون معكوفة الرأس، ولكن لا يقدر عظمها إلا الله جل وعلا، تخطف من أمرت بخطفه، فمنهم مخدوش مسلم، ومنهم مكردس على رأسه في النار، ومنهم من يحبو مرة ويتعلق بيده أو برجله مرة، فالأمر صعب جداً، وهذا يكون لمن يتعثر على صراط الله الذي جعله مسلكاً لعباده في هذه الدنيا، فمن تعثر عليه ومال يميناً وشمالاً مالت رجله عن ذلك الصراط، وربما سقط وربما تعلق، فالواجب على العبد أن يتبع صراط الله جل وعلا ولا يميل ولا تأخذه السبل الكثيرة، فالسبل الكثيرة هي التي تهوي به إلى النار، فكل من سلك سبيلاً غير السبيل الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم لن يستطيع العبور على الصراط.