للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[نفي أهل البدع لصفات الله الثابتة بشبه مضلة]

جاء أهل الضلال فقالوا: لا يجوز أن نعتقد أن الله مستوٍ على العرش؛ لأن الذي يكون فوق العرش جسم في جهة، كما قالوا: لا يجوز أن نعتقد أن الله يتكلم؛ لأننا ننزه الله عن التشبيه؛ لأن الكلام لا يكون إلا لمن له لسان ولهاة وحنجرة وشفتان، والكلام له مقاطع، وله مبدأ وله آخر، وإذا قلنا: إن الله يتكلم، فيلزمنا أن الحوادث تحل به -تعالى وتقدس-.

فالجواب أن نقول لهؤلاء الضلال -الذين أرادوا أن يلبسوا على المسلمين، وأن يشككوهم في ربهم- كلمة جسم من أين أتيتم بها؟ هذه كلمة مبتدعة لا وجود لها في كتاب الله ولا في أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، لا نفياً عن الله ولا وصفاً له بها، فنردها عليكم، ونثبت ما أثبته الله لنفسه، وأثبته له رسوله، ولا نقول كما تقولون، ولسنا بحاجة إلى ذلك؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغنا ذلك.

وأما إذا أردنا التفصيل والجدال فنقول: ماذا تريدون بالجسم؟ فأنتم تختلفون في تعريفه، فهل تريدون بالجسم: البدن المكون من اللحم والدم والعظام؟ إذا كنتم تريدون هذا فالله يتعالى عن ذلك ويتقدس، وهذا تكلف ما جاءنا به كتاب ولا سنة، ولكن جاءنا قوله جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١]، فهذا الذي تعرفونه أنتم من أنفسكم نعتقد أنه تشبيه، حيث شبهتم الله في أذهانكم أولاً، ثم نطقتم بنفيه، أما أهل الحق فلا يعتقدون هذا، وإن اعتقدتم أن الجسم يشغل مكاناً؛ فنحن نعتقد أن الله فوق، وأنه مستو على عرشه، وأنه أكبر من كل شيء، وأعظم من كل شيء؛ لأن نصوص الشرع جاءت بهذا، والرسول صلى الله عليه وسلم قد أشار إليه، والله أخبرنا أنه ينزل متى يشاء، وأخبر أنه يجيء يوم القيامة لفصل القضاء بين خلقه، فلا يجوز أن يترك كتاب الله وشرعه ورسالة رسوله صلى الله عليه وسلم لقول هؤلاء المبطلة المعطلة الضلال، الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا.

أما مسألة الكلام فنقول: هل المخلوق الذي يتصف بالكلام أكمل ممن لا يستطيع أن يتكلم أو أنقص؟ أليست صفة الكلام صفة كمال؟ فالله جل وعلا قد عاب على قوم موسى عليه السلام حينما عبدوا العجل وهو لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً، ولا يملك لهم قولاً، فلا يخاطبهم إذا خاطبوه، ولا يجيبهم إذا سألوه.

فدل هذا على أن صفة الكلام صفة كمال وليست صفة نقص، هذا في كلام المخلوق، والله جل وعلا قد أعلمنا أنه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:١١]، وأن كلامه لا يشبه كلام الخلق، كما أن ذاته جل وعلا لا تشبه ذوات المخلوقات، وأخبرنا أنه يتكلم، وأنه أرسل الرسل بالشرع الذي يوحيه إليهم، ويخاطبهم به، وأنه يخاطب خلقه، وأنه يحاسبهم، فنفي هذا كفر بالله جل وعلا، وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: (أعرف حجراً في مكة كان يسلم عليّ) يقول: السلام عليك يا رسول الله.

حجرٌ أصم يخاطبه خطاب فصيح عربي ويقول: (السلام عليك يا رسول الله) كلما مر عليه، فكلما مر على هذا الحجر سلم عليه.

وثبت أنه صلوات الله وسلامه كان يخطب في مسجده على جذع نخلة يابس اتخذه منبراً له، كما أنه اتخذ سواري المسجد من جذوع النخل، هكذا كان مسجده، بنى سواريه بجذوع النخل اليابس، فجذع النخل يجعله سارية، وسقف المسجد من جريد، وإذا جاء المطر نزل عليهم، ويسجد صلوات الله وسلامه عليه أحياناً في الماء والطين، فيظهر أثر الماء والطين في جبهته صلوات الله وسلامه عليه، كما ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيد الخدري يقول: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر، فتلاحا رجلان -يعني: تجادل رجلان- فرفعت، فقال صلى الله عليه وسلم: خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحا فلان وفلان، فرفعت، وعسى أن يكون خيراً، وقد رأيتني صبيحتها أسجد في ماء وطين)، يقول أبو سعيد الخدري: وكان مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مسقوفاً بجريد النخل، فجاء المطر ليلة إحدى وعشرين من رمضان فوكف سقف المسجد، فرأيت أثر الماء والطين في جبهة رسول الله صلى الله عليه وسلم صبيحة تلك الليلة؛ ولهذا كان أبو سعيد يقول: إن ليلة القدر هي ليلة إحدى وعشرين استناداً إلى هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.

فالمقصود أنه كان صلوات الله وسلامه عليه يخطب على جذع نخلة يابس، ثم فيما بعد أمر نجاراً أن يصنع له منبراً، فصنع له منبراً من طرفاء الغابة، فترك ذلك الجذع وصار يخطب على هذا المنبر، فأول ما صعد على هذا المنبر للخطبة وترك الجذع سمع الحاضرون الذين في المسجد حنين الجذع، فصار يحن مثل حنين الناقة إذا فقدت ولدها، حتى نزل صلوات الله وسلامه عليه من على منبره والتزمه فهدأ، وقال: (لو تركته لبقي يحن إلى يوم القيامة)، يحن على الوحي الذي فقده، وكان يُتلى عليه، فعلى ذكر الله وآياته يحن.

فهذا جذع جماد يابس له صوت، فكيف يقول هؤلاء: إذا أثبتنا الكلام لله أثبتنا التشبيه؟ تعالى الله وتقدس، فالله ليس كمثله شيء، فكلامه لا يشبه كلام الخلق، وكلامه لا يتطلب ما تقولون، فالكلام الذي يتطلب ما تقولون هو كلامكم، كلام الآدميين وكلام المخلوقين، فهذا دليل على أنهم مشبهة، وأنه ارتسم عندهم التشبيه أولاً، ثم صاروا ينفونه بالتعطيل.

وعلى كل حال فالإنسان مسئول عما أنزله الله إليه في كتابه، وما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم، ليس عن فلان وفلان، وهذه عقيدة الأمة التي سلكت طريق الصحابة وأتباعهم، يصفون الله جل وعلا بما وصف به نفسه وما وصف به رسوله، فكل ما أثبته الله جل وعلا لنفسه أو أثبته له الرسول يُثبتونه، لا يحرفون، ولا يعطلون، ولا يكيفون، ولا يشبهون ولايمثلون، تعالى الله وتقدس؛ فإن الله ليس كمثله شيء، ولكن يثبتون ما أثبته لنفسه، فكل ما جاء موصوفاً به الرب جل وعلا يجب أن يثبت له، ولا يُلتفت لقول هؤلاء.

ونزيد هذا ونقول: إن الله جل وعلا أخبرنا أنه يخاطب الجلود، وأنها تتكلم يوم القيامة، ويخاطب الأسماع والأبصار، وأن السمع والبصر يتكلم، وكذلك الأيدي، فقد أخبر جل وعلا أنه يختم على أفواه قوم، وأنها تتكلم أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون، فالأيدي والأرجل تتكلم، فيقال لهم: أخبرونا كيف تتكلم الأيدي والأرجل فأنتم تؤمنون بهذا؟ وحينئذ لابد لهم من التسليم للوحي.

أقول: إذا ثبت هذا في المخلوقات بدون أن يكون لها فم ولسان وشفتان، فكيف يشترط في كلام الله وجود هذه الأشياء؟!! وكل ما قالوه من هذا النوع باطل، وبعضه بطلانه ظاهر جداً؛ ولهذا صاروا يردون الكتاب والسنة رداً صريح، ويقولون: ما نقبل هذا، وما نقبل إلا عقولنا، فهل الله يسألكم عن عقولكم، أو يسألكم عما أرسل به رسوله صلوات الله وسلامه عليه؟ فسوف ترون عاقبة أمركم يوم تقفون بين يدي الله جل وعلا.