للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[وجوب تخيير الكفار قبل قتالهم إذا لم تكن الدعوة قد بلغتهم]

قال الشارح رحمه الله: [فتبين أن أصل الإسلام هو التوحيد ونفي الشرك في العبادة، وهو دعوة جميع المرسلين، وهو الاستسلام لله تعالى بالتوحيد والانقياد له بالطاعة فيما أمرهم به على ألسن رسله، كما قال تعالى عن نوح أول رسول أرسله: {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} [نوح:٣].

وفيه مشروعية الدعوة قبل القتال، لكن إن كانوا قد بلغتهم الدعوة جاز قتالهم ابتداءً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أغار على بني المصطلق وهم غارُّون، وإن كانوا لم تبلغهم الدعوة وجبت دعوتهم.

قوله: (وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه) أي: في الإسلام، إذا أجابوك إليه فأخبرهم بما يجب من حقوقه التي لابد لهم من فعلها، كالصلاة والزكاة، كما في حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (فإذا فعلوا ذلك فقد منعوا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها)، ولما قال عمر لـ أبي بكر في قتاله مانعي الزكاة: (كيف تقاتل الناس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها؟ قال أبو بكر: فإن الزكاة حق المال، والله! لو منعوني عناقاً كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم على منعها).

وفيه بعث الإمام الدعاة إلى الله تعالى، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون يفعلون، كما في المسند عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال في خطبته: (ألا إني والله! ما أرسل عُمالي إليكم ليضربوا أبشاركم، ولا ليأخذوا أموالكم، ولكن أرسلهم إليكم ليعلموكم دينكم وسننكم).

قوله: (فوالله! لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من حمر النعم) (أن) مصدرية، واللام قبلها مفتوحة لأنها لام القسم، و (أن) والفعل بعدها في تأويل مصدر رفع على الابتداء، والخبر (خير)، و (حمر) بضم المهملة وسكون الميم، جمع أَحْمر.

و (النعم) بفتح النون والعين المهملة، أي: خير لك من الإبل الحمر، وهي أنفس أموال العرب.

قال النووي: وتشبيه أمور الآخرة بأمور الدنيا إنما هو للتقريب إلى الأفهام، وإلا فذرة من الآخرة خير من الأرض بأسرها وأمثالها معها.

وفيه فضيلة من اهتدى على يديه رجل واحد، وجواز الحلف على الخبر والفتيا ولو لم يستحلف].

هذا الحديث سيق لأجل قوله: (ثم ادعهم إلى الإسلام وأخبرهم بما يجب لله عليهم فيه، فإن هم فعلوا ذلك) معنى هذا: أنه يكف عنهم.

وقوله: (إن هذا يدل على وجوب الدعوة إذا لم تكن قد بلغتهم) معنى هذا: أنه إذا كان المسلمون يقاتلون كفاراً، فإن كان الكفار لم تصل إليهم دعوة المسلمين والمعرفة بدينهم فلا يجوز أن يبدءوهم بالقتال حتى يعلموهم ويبينوا لهم ذلك، فإن قبلوا الدين وجب أن يكفوا عنهم؛ لأن القتال شرع حتى لا يكون في الأرض شرك، كما قال تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة:١٩٣]، والفتنة هي الشرك، فالقتال شُرع لهذه الغاية، فإذا تركوا الشرك وجب أن يكف عنهم.

هذا بالنسبة لمن يقاتل من الكفار الجاهلين بالدين الإسلامي، فإنه يجب أن يدعوهم إلى الإسلام أولاً، ويبين لهم أن هذا أمر متعين يجب قبوله على كل عبد، فإن أبوا عن قبوله وجب على عباد الله أن يقاتلوا عباد الشيطان، والله جل وعلا جعل العداوة بين أوليائه وأولياء الشيطان، ثم المقاتلة لابد منها، فإن لم يحصل القتال حصلت الفتنة والفساد العريض في الأرض، فإذا أصبح المسلم مخالطاً للمشرك، وأصبح لم يتبرأ منه ولم يظهر له العداوة، فسينتشر الفساد العريض في الأرض، كما أخبر الله جل وعلا في آخر سورة الأنفال لما ذكر أن المؤمنين أولياء المؤمنين وأن بعضهم ينصر بعضاً.

وإذا استنصر المؤمن أخاه المؤمن وجب عليه أن ينصره، ثم ذكر أن الكافرين بعضهم أولياء بعض فقال: {إِلَّا تَفْعَلُوهُ} [الأنفال:٧٣] يعني: إلا تفعلوا هذا الشيء بأن يكون المؤمن ولي المؤمن {تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:٧٣]، والفساد الكبير في الأرض هو بأن تفسد الأخلاق وتفسد الأديان، ولهذا يقول في الآية الأخرى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ} [المجادلة:٢٢].

فالمقصود أن مشروعية القتال هي لأجل أن يكون الدين كله لله، وليس من أجل أموال يحصل عليها المسلمون، أو بلاد يستغلونها، أو تكون تحت أيديهم، أو فدية تدفع لهم، أو ما أشبه ذلك من أمور الدنيا، ولهذا كان الصحابة رضوان الله عليهم عند أن كانوا يقاتلون الفرس والروم وغيرهم في بلاد الله كانوا يخيرونهم بين ثلاث، وكانوا يبينون لهم أنهم كانوا في جاهلية وكانوا فقراء وكانوا من أضعف الناس فمنَّ الله جل وعلا عليهم بأن أرسل إليهم نبياً يعرفون نسبه وصدقه وأمانته، وأنزل عليهم كتابه، فآمنوا به واتبعوه، فأبدلهم بالقلة كثرة، وبالذلة عزة، وصاروا يقولون للناس: إن قبلتم هذا الدين فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وأنتم إخواننا، ونرجع عن بلادكم، ولن ندخل في شئونكم وإن أبيتم فأمامكم أمران -هذا إذا كانوا من أهل الكتاب-: إما أن تدفعوا الجزية وأنتم صاغرون أذلاء، وإما القتال بيننا وبينكم، ويد الله مع من شاء، ونصره لعباده المؤمنين.

هكذا كانوا يقولون لمن أتوه ليقاتلوه، وهذا هو الذي تلقوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.