[التعلق بالقبور سبب وقوع الشرك في الأرض أول مرة]
قد سبق أن أول شرك وقع في الأرض في قوم نوح بسبب القبور، كما قال جل وعلا: {قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا * وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا * وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:٢١ - ٢٣] فود وسواع ويغوث ويعوق ونسر هذه أسماء رجال صالحين لما ماتوا صوروهم ثم عبدوهم، وهناك قول آخر وهو: إنهم لما قبروهم عبدوا قبورهم، فهم صوروهم ونصبوهم في مجالس معينة، فصاروا يعظمونهم حتى صارت آلهة يعبدونها، فصار يوصي بعضهم بعضاً بالتمسك بعبادتهم؛ لئلا يؤثر عليهم نبي الله نوح عليه السلام: {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} [نوح:٢٣] لا تذرنها لقول نوح، إياكم أن تتركوها لقول نوح هذا معناه، ثم أكدوا على هذه الأصنام كلها {وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ} [نوح:٢٣] وهذه توصية عامة بالتمسك بالآلهة كلها على اختلاف أنواعها، ثم أكدوا وصية مؤكدة خاصة بعد ذلك بالتمسك بهذه الأصنام الخمسة: {وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:٢٣] فدل هذا على أن الفتنة في هذا قريبة وليست كما يقول من جهل الحكمة التي نهى الشارع من أجلها عن تحري العبادة عند القبور، أو أداء العبادة عندها، وقال: إن المراد بالنهي النجاسة، فإن المقبرة نجسة فلا يصلى فيها، وإلا لو خلت من النجاسة أو فرش فراش على هذه القبور وصليت عندها فلا بأس، أهذا يقوله من يعرف مراد الشرع؟ كلا.
ما يقوله إلا إنسان ما عرف مراد الشارع، وإنما المراد هو خوف أن تقع العبادة لهؤلاء الأموات، وهذا عجيب أن ميتاً أفضى إلى ما عمل يطلب منه أن ينفع الحي، والسبب في هذا اعتقاد الصلاح، واعتقاد الولاية، وأنه ولي، وأن الولي يعطى مطلوبه، وأنه إذا سئل منه شيء فيمكنه أن ينفع في هذا الشيء، هذا هو أساس الشرك، وهذا هو أصله.
قال الشارح: [قوله: ولـ ابن جرير هو الإمام الحافظ محمد بن جرير بن يزيد الطبري صاحب التفسير والتاريخ والأحكام وغيرها قال ابن خزيمة: لا أعلم على الأرض أعلم من محمد بن جرير وكان من المجتهدين لا يقلد أحداً، وله أصحاب يتفقهون على مذهبه ويأخذون بأقواله، ولد سنة أربع وعشرين ومائتين، ومات ليومين بقيا من شوال سنة عشر وثلاثمائة].
في زمنه رحمه الله نظراؤه كثير، كان الأئمة المجتهدون كثيرين، ولكن بعضهم صار له أصحاب يذكرون أقوالهم ويتفقهون على أقوالهم وينشرونها، فاشتهر منهم الأئمة الأربعة: وهم الإمام مالك والإمام أبو حنيفة والشافعي وأحمد رحمهم الله جيمعاً، ولهم نظراء كثير، مثل: سفيان الثوري، ومثل: الليث بن سعد، ومثل: الزهري ويصعب حصرهم وكلهم أئمة كبار، ولهم اجتهاد، ولهم إدراك وفقه عميق، ولكن ما صار لهم أصحاب مثلما صار لهؤلاء، مع أن الأئمة هؤلاء أنفسهم كانوا ينهون الناس أن ينقلوا أقوالهم ويدونوها، ويقولون لهم: تفقهوا في كتاب الله وفي أحاديث رسوله كما فعلنا نحن، واتركوا أقوالنا، ومعلوم أن المسائل تتجدد، وأن كثيراً من الناس لا يستطيع أن يستنتج حكم الفعل الذي يفعله أو الأمر الذي يقع له، ما يستطيع أن يستنتجه من كتاب الله ومن أحاديث رسوله، فيذهب إلى سؤال العلماء، أو ينظر في أقوالهم، فيجد فيها الشيء الذي يطابق الفعل؛ لكثرتها ولكثرة الأسئلة، ولكونهم تكلموا في مثل هذه المسائل، فمن هنا صاروا يعتنون بأقوالهم.
التقليد: هو أن يتبع الإنسان غيره بغير دليل، أن تتبع هذا الشخص بلا دليل، كأن يقول لك: افعل كذا فتتبعه وتأخذ بقوله، أما اعتبار قوله بالدليل والنظر إلى الدليل فهذا لا يكون تقليداً؛ ولهذا يستعان بأقوال العلماء في معرفة معاني كلام الله، ومعاني كلام رسوله صلى الله عليه وسلم؛ ولأن الإنسان إذا عرف اللغة وفهم مراد المتكلم واستعان بأقوال العلماء فإنه يتبين له الحق، ولا يكون بذلك مقلداً، أما إذا كان الإنسان ليس عنده استطاعة، فلابد له من التقليد، فالإنسان العامي كيف يقال له: ابحث عن الدليل؟! هذا ما يجوز، وقد قال الله جل وعلا: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:٤٣] فأمر بسؤالهم، ومعلوم أن الأمر بسؤالهم يقتضي أن يتبعهم في أقوالهم، هذا هو الذي لا يستطيع أكثر المسلمين إلا ذلك، ولا يجوز أن يكلفوا بالشيء الذي لا يطيقونه، لا كما يقول بعض من لم يتمكن من العلم: يجب على الناس أن يعرفوا أدلة الأحكام، وأن يعرفوا حكم الوقائع من الكتاب والسنة، كلهم عليهم أن يعرفوا ذلك! نقول: هذا مستحيل ما يمكن، وليس عيباً كون الإنسان يقلد إماماً من الأئمة الذين صار لهم لسان صدق في الأمة، وعرفوا بعلمهم وتقواهم وحرصهم على نفع الناس، وشدة اتباعهم للرسول صلى الله عليه وسلم، وعرف اقتداؤهم بالسلف، ليس عيباً ولكن على الإنسان أن يتقي الله حسب استطاعته فإذا لم يستطع فإن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها.
قال الشارح: [قوله: عن سفيان الظاهر: أنه سفيان بن سعيد بن مسروق الثوري أبو عبد الله الكوفي ثقة حافظ فقيه إمام عابد، كان مجتهداً، وله أتباع يتفقهون على مذهبه، مات سنة إحدى وستين ومائة، وله أربع وستون سنة.
قوله: عن منصور هو ابن المعتمر بن عبد الله السلمي ثقة ثبت فقيه مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
قوله: عن مجاهد هو ابن جبر -بالجيم والموحدة- أبو الحجاج المخزومي مولاهم المكي ثقة إمام في التفسير، أخذ عن ابن عباس وغيره -رضي الله عنهم- مات سنة أربع ومائة، قاله يحيى القطان، وقال ابن حبان: مات سنة اثنتين أو ثلاث ومائة وهو ساجد، ولد سنة إحدى وعشرين في خلافة عمر رضي الله عنه].
ومجاهد من تلامذة ابن عباس وكان يقول: عرضت المصحف على ابن عباس مرتين، أسأله عن كل آية فيما نزلت وما معناها؛ ولهذا السبب اعتمد البخاري رحمه الله في صحيحه قول مجاهد؛ لأنه لاحظ في ذلك ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لـ ابن عباس: (اللهم فقهه في الدين، وعلمه التأويل) والتأويل في لغة السلف المقصود به التفسير، (علمه التأويل) يعني: تفسير القرآن، ولهذا اشتهر ابن عباس بتفسير القرآن، ولهذا السبب اعتمد البخاري رحمه الله على قوله، استناداً إلى دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم له.