[وجوب التسليم والرضا بقدر الله سبحانه]
[وأظن شيخ الإسلام رحمه الله ذكره في هذا الموضع، ولعل الناسخ أسقطه والله أعلم.
ثم قال رحمه الله: فإن الإنسان ليس مأموراً أن ينظر إلى القدر عندما يؤمر به من الأفعال، ولكن عندما يجري عليه من المصائب التي لا حيلة له في دفعها، فما أصابك بفعل الآدميين أو بغير فعلهم فاصبر عليه وارض وسلم، قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن:١١].
ولهذا قال آدم لموسى: (أتلومني على أمر قدره الله علي قبل أن أخلق بأربعين سنة؟ فحج آدم موسى)؛ لأن موسى قال له: (لماذا أخرجتنا ونفسك من الجنة؟) فلامه على المصيبة التي حصلت بسبب فعله، لا لأجل كونها ذنباً، وأما كونه لأجل الذنب كما يظنه طوائف من الناس فليس مراداً بالحديث، فإن آدم عليه السلام كان قد تاب من الذنب والتائب من الذنب كمن لا ذنب له، ولا يجوز لوم التائب باتفاق الناس.
انتهى.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: فتضمن هذا الحديث أصولاً عظيمة من أصول الإيمان: أحدها: أن الله سبحانه موصوف بالمحبة، وأنه يحب حقيقة.
الثاني: أنه يحب مقتضى أسمائه وصفاته وما يوافقها، فهو القوي ويجب المؤمن القوي، وهو وتر يحب الوتر، وجميل يحب الجمال، وعليم يحب العلماء، ونظيف يحب النظافة، ومؤمن يحب المؤمنين، ومحسن يحب المحسنين، وصابر يحب الصابرين، وشاكر يحب الشاكرين.
ومنها: أن محبته للمؤمنين تتفاضل فيحب بعضهم أكثر من بعض.
ومنها: أن سعادة الإنسان في حرصه على ما ينفعه في معاشه ومعاده، والحرص: هو بذل الجهد واستفراغ الوسع فإذا صادف ما ينتفع به الحريص كان حرصه محموداً، وكماله كله في مجموع هذين الأمرين: أن يكون حريصاً، وأن يكون حرصه على ما ينتفع به، فإن حرص على ما لا ينفعه، أو فعل ما ينفعه من غير حرص فاته من الكمال بقدر ما فاته من ذلك، فالخير كله في الحرص على ما ينفع.
ولما كان حرص الإنسان وفعله إنما هو بمعونة الله ومشيئته وتوفيقه، أمره أن يستعين بالله ليجتمع له مقام: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:٥]، فإن حرصه على ما ينفعه عبادة لله تعالى، ولا يتم إلا بمعونته، فأمره أن يعبده وأن يستعين به، فالحريص على ما ينفعه المستعين بالله، ضد العاجز، فهذا إرشاد له قبل وقوع المقدور إلى ما هو أعظم أسباب حصوله، وهو الحرص عليه مع الاستعانة بمن أزمة الأمور بيده، ومصدرها منه، ومردها إليه.
فإن فاته ما لم يقدر له فله حالتان: عجز، وهو مفتاح عمل الشيطان فيلقيه العجز إلى (لو) ولا فائدة في (لو) هاهنا، بل هي مفتاح اللوم والعجز والسخط والأسف والحزن، وذلك كله من عمل الشيطان.
فنهاه صلى الله عليه وآله وسلم عن افتتاح عمله بهذا الافتتاح، وأمره بالحالة الثانية، وهي: النظر إلى القدر وملاحظته، وأنه لو قدر له لم يفته ولم يغلبه عليه أحد، فلم يبق له هاهنا أنفع من شهود القدر، ومشيئة الرب النافذة التي توجب وجوب المقدور.
وإن انتفت امتنع وجوده، ولهذا قال: (فإن غلبك أمر فلا تقل: لو أني فعلت كذا وكذا لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل)، فأرشده إلى ما ينفعه في الحالتين: حالة حصول المطلوب، وحالة فواته، فلهذا كان هذا الحديث مما لا يستغني عنه العبد أبداً، بل هو أشد إليه ضرورة، وهو يتضمن إثبات القدر والكسب والاختيار والقيام بالعبودية ظاهراً وباطناً في حالتي حصول المطلوب وعدمه، وبالله التوفيق.
انتهى].
خلاصة الباب أن العبد يجب عليه إذا أصابه شيء أن يسلم ويرضى بالله جل وعلا، وأن يجتنب قولة: لو فعلت كذا لكان كذا لأن قولة: (لو) لا يخلو الأمر لمن قالها من أن يكون متسخطاً لما يقع وغير راضٍ به، أو أنه يعتقد أن الأسباب التي يذكرها -لو فعلت كذا لكان كذا- أنه يمكن أن تغير الواقع، وهذا كله خلاف الإيمان بالقدر؛ لأن الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان الستة، فإنه لابد أن يعلم أن كل ما يقع فإنه معلوم لله أزلاً وقد كتبه، وأنه يقع على وفق كتابة الله له وعلمه ويكون في الوقت المحدد، ولا يمكن أن يتغير أو يزيد أو ينقص.
ثم إن العبد مأمور بفعل السبب والحرص على ما ينفع، فيفعل الأسباب ويحرص عليها، ويقوم بها ويستعين بالله جل وعلا، وهذا هو معنى الكسب والاختيار، أي: أنه يعمل الأعمال التي توكل إليه باختياره، يفعلها بقدرته، وفعله ينسب إليه حقيقة.
فالله جل وعلا خلقه وخلق له قوى، وخلق له الفكرة والإرادة التي يريد بها مع المقدرة، فالمقدرة والإرادة مخلوقتان لله جل وعلا، وهي للعبد، ويفعل بالقدرة وبالإرادة فيكون الفعل له وإن كان مقدراً، ففعل العبد لا ينافي التقدير، كونه ينسب إليه ويضاف إليه حقيقة أنه فعله، فالله هو الذي خلق العبد وخلق له الإرادة والقدرة، فصار فعله مكتسباً له يثاب عليه أو يعاقب عليه.
فبهذا يجتمع القدر مع فعل العبد حقيقة، ولا يكون فيه مخالفة ومنافاة كما يعتقد أهل الضلال، فهذا هو الحق الذي دلت عليه النصوص، وهو الذي يقول به أهل السنة.