للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[لله جل وعلا في كل قضية حكم واحد فقط]

[وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله هو الحَكَم وإليه الحُكْم)، فهو سبحانه الحكم في الدنيا والآخرة، يحكم بين خلقه في الدنيا بوحيه الذي أنزل على أنبيائه ورسله، وما من قضية إلا ولله فيها حكم].

أي: ما من قضية تقع بين الناس أو حادثة تحدث أو أمر يحدث إلا ولله فيه حكم، وهو موجود في كتاب الله؛ لأنه لم يفرط فيه بشيء، بل كل قضية تحدث صغيرة أو كبيرة فحكمها في كتاب الله، ولكن قد يفهما الناس وقد لا يفهمونها، وقد أدركت الأمة كل الأحكام وكل القضايا، فيجب أن يرجعوا إلى كتاب الله في جميع ما يحدث، وأن يكون هو الحاكم بينهم، ولا يجوز أن يعتاضوا عنه بالقوانين فإن هذا من الكفر.

قال الشارح رحمه الله: [وما من قضية إلا ولله فيها حكم بما أنزل على نبيه من الكتاب والحكمة، وقد يسر الله معرفة ذلك لأكثر العلماء من هذه الأمة؛ فإنها لا تجتمع على ضلالة، فإن العلماء وإن اختلفوا في بعض الأحكام فلابد أن يكون المصيب فيهم واحداً].

يعني: ليس كل مجتهد يكون مصيباً، وإنما المصيب واحد فقط، والحق لا يتعدد، فلا يمكن أن يكون هذا أصاب الحق والذي قال خلاف قوله أصاب الحق، هذا لا يكون أبداً؛ لأن الحق واحد فقط، ولكن إذا كان المخالف مجتهداً وأهلاً للاجتهاد، فيكون مأجوراً على اجتهاده وخطؤه مغفور، أما إذا كان يتخبط بجهل فإنه وإن أصاب فهو آثم، ولهذا قسم الرسول صلى الله عليه وسلم القضاة إلى ثلاثة، فجعل اثنين منهم في النار وواحداً في الجنة، فأما الذي يحكم بين الناس بالجهل فهو في النار، وأما الذي يعرف الحق ويحكم بخلافه فهو في النار، وأما الذي يعرف الحق ويحكم به فهذا هو الذي يكون في الجنة.

والمقصود: أن كل قضية حكم الله فيها واحد، وهو موجود في كتاب الله أو في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن الله ما فرط، والرسول صلى الله عليه وسلم جاء بشرع كامل شامل إلى يوم القيامة، صالح لكل زمان، فيجب على عموم الخلق أن يرجعوا إليه، فإن لم يفعلوا فإنهم متوعدون بصليهم في النار؛ لأن من لم يحكم بما أنزل الله جل وعلا فليس بمؤمن.

قال الشارح رحمه الله تعالى: [فمن رزقه الله تعالى قوة الفهم، وأعطاه ملكة يقتدر بها على فهم الصواب من أقوال العلماء، يسر له ذلك بفضله ومنِّه عليه وإحسانه إليه، فما أجلها من عطية، فنسأل الله من فضله].

ليس معنى ذلك أن الحكم يكون بأقوال العلماء أو بآرائهم، وإنما العلماء يستنتجون الأحكام من كتاب الله، ومن سنة رسوله صلى الله عليه وسلم بالفهم، والفهم يتفاوت بينهم، كما أخبر الرسول صلى الله عليه وسلم أن منهم طائفة تشبه الأرض الطيبة التي تمسك الماء وتنبت الكلأ الكثير الذي ينتفع به الناس، فهؤلاء أمثال الفقهاء الذين يفهمون النصوص ويستخرجون منها الأحكام الكثيرة، وطائفة أخرى مثلهم مثل القيعان التي تمسك الماء، ولا تنبت الكلأ، ولكنها تمسك الماء فيرد الناس عليها ويرتوون من هذا الماء، فهؤلاء أمثال الحفاظ الذي يحفظون ولكن ليس عندهم فقه مثل الفقهاء، وهؤلاء هم أهل الخير وأهل الفضل، وهم الذين ورثوا الكتاب وقبلوا ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم.

أما الطائفة الثالثة فجعلهم مثل الأرض السبخة أو الأرض الرملية التي لا تمسك ماءً ولا تنبت كلأً، وإنما يأتيها الماء فتبلعه ولا يكون له أي أثر، فهؤلاء أمثال الذين لم ينتفعوا بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم من الهدى والعلم والإيمان.

والمقصود: أن الأحكام ليست في آراء العلماء وأقوالهم، وإنما هي في استنتاجاتهم وما فهموه من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، والفهم يتفاوت تفاوتاً عظيماً، فقد يفهم أحد العلماء من نص واحد ألف حكم أو ما يقارب ذلك، كما يظهر ذلك لمن تتبع كتب العلماء واستنتاجاتهم وأقوالهم، ومنهم من يفهم من نص واحد حكماً أو حكمين أو ثلاثة أو نحو ذلك.