للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من تؤخذ منهم الجزية من غير المسلمين]

قال الشارح رحمه الله [قوله: (فإن هم أبوا فاسألهم الجزية) فيه حجة لـ مالك وأصحابه والأوزاعي في أخذ الجزية من كل كافر، عربياً كان أو غيره، كتابياً كان أو غيره، وذهب أبو حنيفة رحمه الله إلى أنها تؤخذ من الجميع إلا من مشركي العرب ومجوسهم، وقال الشافعي لا تؤخذ إلا من أهل الكتاب عرباً كانوا أو عجماً، وهو قول الإمام أحمد في ظاهر مذهبه، وتؤخذ من المجوس].

وهذا الحكم من أحكام الشرع التي لا يُعمل بها الآن، ولن يُعمل به حتى يكون للإسلام السيطرة والقوة، أما ما دام أهل الإسلام تاركين الجهاد في سبيل الله فكيف الطريق إلى الجزية؟! بل ربما أخذت الجزية الآن -أو شبه الجزية- من المسلمين، فقد أصبح أعداؤهم يسلبونهم ما بأيديهم كما هو موجود في كثير من الأقطار، ويفرضون عليهم أشياء يسمونها ضريبة، وهذه الضرائب أشبه بالجزية، فإذا صار المسلمون أقوياء وصاروا مسيطرين على الكفار فإن كفار أهل الكتاب أو غيرهم يخيرون بين أمور ثلاثة: فيقال لهم: إما أن تدخلوا في الإسلام، ويكون لكم ما للمسلمين وعليكم ما عليهم، ولا فرق بينكم وبين المسلمين؛ لأن الأرض كلها لله يورثها أهل الإسلام.

فإن لم يقبلوا هذا قيل لهم: إذن تدفعوا الجزية عن يد وأنتم صاغرون، ذليلون حقيرون، ولهذا ينبغي أن يُذلوا ويهانوا عند أخذها، حتى يدعوهم ذلك إلى الدخول في الإسلام، فإن امتثلوا هذا أخذت منهم الجزية وتركوا، وصار على المسلمين حمايتهم من الظلم وممن أرادهم بقتل أو غيره، وهذا بدل الجزية التي يدفعونها، وهذه الحماية تكون لهم إذا كانوا في بلاد المسلمين، وهؤلاء هم أهل الذمة الذين يعطون العهد بأن يتركوا على دينهم بشرط ألا يظهروا دينهم، ولا يدعوا إليه؛ لأنهم إذا أظهروه بين المسلمين فقد يغتر بهم من يغتر من جهال المسلمين، وإنما يمارسونه في صوامعهم وفي أماكن عباداتهم كما هو معروف.

فإن أبوا قبول هذا قيل لهم: بقيت خصلة ثالثة وهي القتال، ولابد من قتالكم، ويد الله مع من يشاء، ومن أراد الله نصره يُنصر.

فكل من يقاتل في سبيل الله إذا أتى الكفار يخيرهم بين هذه الأمور الثلاثة: يدعوهم أولاً إلى الإسلام فإن أجابوا فهذا المطلوب، وإذا جابوه وجب أن يتركهم في بلادهم وأموالهم، ولا يتعرض لهم بشيء، فإن لم يجيبوه طلب منهم الجزية.

وحد الجزية اختلفوا فيه: فالمشهور في مذهب الإمام مالك أنها أربعة دنانير على أهل الذهب، وأربعون درهماً على أهل الفضة، والمشهور من مذهب الشافعي أنه لا فرق بين الفقير والغني فيؤخذ من كل واحد دينار، في السنة، وهذا أمر سهل وبسيط، والمشهور في مذهب أبي حنيفة والإمام أحمد أن على الأغنياء أربعين ديناراً وعلى الفقراء عشرة، وعلى المتوسطين عشرين، وهناك رواية أخرى في تحديدها، وعلى كل حال فهذه تقديرات اجتهادية.

والمقصود: أن يفرض عليهم شيء يؤخذ منهم، كما فرضه الرسول صلى الله عليه وسلم على مجوس أهل البحرين، فإنه كان يأخذ منهم الجزية سنوياً.

وهذا من الأحكام المتروكة المنسية التي لا يعمل بها، وإذا احتيج إليها فهي سهلة.

قال الشارح رحمه الله: [قلت: لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذها منهم، وقال: (سنوا بهم سنة أهل الكتاب)].

وقد اختلفوا فيمن تؤخذ منهم الجزية، وهل تؤخذ من كل كافر؟ والصواب: أنها تؤخذ من الكفار عموماً، وهو مذهب الإمام مالك رحمه الله، أما عند الإمام أبي حنيفة فيخرج بذلك الكفار العرب وقال: لا تؤخذ منهم؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم ما أخذها منهم، يعني: أنهم إما أن يقتلوا أو يسلموا، وليس هناك مجال آخر، ويقول الإمام أبو حنيفة: إذا كانوا من أهل الكتاب فتؤخذ منهم الجزية، يعني: اليهود العرب أو المجوس العرب، ويلحقون بأهل الكتاب؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية منهم، والصحابة كذلك سنوا بهم هذه السنة.