للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[من الشرك الاستعاذة بغير الله]

قال المصنف رحمه الله: [باب: من الشرك الاستعاذة بغير الله تعالى].

قد سبق أنه عقد باباً قال فيه: باب تفسير التوحيد وشهادة أن لا إله إلا الله، ثم لما فرغ من ذلك قال: وكل ما أذكره في هذا الكتاب تفسير لهذا الباب، فهذا منه، يعني: أن الاستعاذة عبادة، وأنها داخلة في معنى لا إله إلا الله؛ لأن معنى لا إله إلا الله: أن تكون الألوهية لله وحده يعني: لا معبود بحق إلا الله جل وعلا، فهي تتضمن نفي العبادة عن غير الله وإثباتها لله وحده.

والاستعاذة من العبادة، وتكون مما يحذر ويخاف أمره، واللياذ يكون مما يرغب ويرجى، والمستعاذ هو الذي يعتصم به ويلتجأ إليه مما يخاف وقوعه، والله جل وعلا يقول: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} [الفلق:١] {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:١] فأمر جل وعلا أن نستعيذ به، {وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} [الأعراف:٢٠٠] فأمر أن تكون الاستعاذة به وحده، جل وعلا، وكون الاستعاذة من المخوف، واللياذ من الشيء الذي يؤمل ويرجى هذا هو ما دل عليه كلام العرب في الجملة كما قال الشاعر: يا من ألوذ به فيما أؤمله ومن أعوذ به مما أحاذره وهذا الشاعر يقول ذلك في رجل من الناس، وهذا لا يجوز أن يكون إلا لرب العالمين جل وعلا، فالعياذ الذي هو الاعتصام والالتجاء يجب أن يكون لله وحده، وكذلك كون الإنسان يرغب ويرجو ويطلب يجب أن يكون رجاؤه ورغبته وطلبه من الله وحده جل وعلا.

يجب أن يكون رجاء المسلم ورغبته وطلبه من الله وحده جل وعلا، ولهذا حرم الله جل وعلا علينا أن نسأل الناس إلا فيما اضطررنا إليه، وقد جاء في الحديث: (إن المسألة لا تحل إلا لإحدى ثلاث: رجل أصيب بجائحة اجتاحت ماله فتحل له المسألة حتى يجد قواماً من عيش، ورجل أصابته فاقة فيقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه يشهدون أنه أصيب بفاقة فتحل له المسألة حتى يجد قواماً من عيش، ورجل تحمل حمالة) يعني: يصلح بين الناس، ويتحمل مالاً في سبيل الإصلاح يدفعه لمن يصلح بينهم، فمثل هذا تحل له المسألة حتى يوفي هذا التحمل، أما ما عدا ذلك فالمسألة سحت، وهي خدوش أو خموش في وجه صاحبها، يأتي يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم، وذلك لأن المسألة فيها افتقار لغير الله، وفيها التفات إلى غير الله، فجوزي الإنسان بطلبه من المخلوق بأن يأتي يوم القيامة وليس على وجهه مزعة لحم، وهي حرام كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (سحت فليستكثر أو ليستقل) وجاء أن المسألة تكون ناراً على من سأل إذا لم يكن يستحقها، كل هذا صيانة من الله جل وعلا لوجه عبده ولقلبه أن يلتفت إلى غيره أو يطلب من غيره.

إذاً: الاستعاذة والطلب الذي هو اللياذ واللوذ يجب أن يكونا بالله وحده، ولكن كون الإنسان يجهل بعض الأحكام التي يجب أن يكون عالماً بها، هل يكون ذلك عذراً له؟ في مثل هذه الأمور لا يكون عذراً له، لماذا؟ لأن التقصير منه، وإلا فالله جل وعلا قد بين، ورسوله صلى الله عليه وسلم أنذر وأعذر، ولم يترك شيئاً إلا وضحه، فيجب على المرء أن يبحث عن أمر دينه، وأن يسأل إذا كان لا يعلم، وقد قال الله جل وعلا: {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} [النحل:٤٣]، فهذا فيه وجوب المسألة لمن لا يعلم.

والمقصود: أن الاستعاذة يجب أن تكون بالله جل وعلا وحده، فمن استعاذ بغير الله فقد وقع في المحذور، وقع في الشرك كما قال الله جل وعلا: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الإِنسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} [الجن:٦]، وهذا فعل المشركين الذين أخبر الله جل وعلا عنهم بأنهم يعوذون بالمخلوق، وقد أخبر الرب جل وعلا أن المشرك لا يزداد بشركه إلا ضراً وخسراناً وبعداً عن الخير، لهذا أخبر أنهم زادوهم رهقاً، وسيأتي بيان ذلك.