للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

معنى قوله تعالى: (وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [وقول الله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:٨٢]].

هذه الآية جاء تفسيرها مرفوعاً عن النبي صلى الله عليه وسلم بأن الرزق هو المطر، والمعنى: تجعلون شكركم تكذيبكم، يعني: والتكذيب أنكم تضيفون نزوله إلى غير منزله ومسقيه وموليه الذي هو الله، وتقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، والواجب أن يقول العبد: مطرنا بفضل الله ورحمته؛ فالله هو الذي أمطر، أما الكوكب فإنه لا دخل له في ذلك، فتجعلون نزول الرزق -الذي هو المطر- تكذيباً، وكان الأحرى بكم أن تشكروه، وتكذيبهم هو: نسبتهم المطر إلى النوء هذا قول.

القول الثاني في الآية: أي: تجعلون نصيبكم وحظكم من الإيمان بهذا الكتاب أنكم تكذبون به وتردونه، وكلا المعنيين صحيح وحق، ويدخل في الآية الأول والثاني.

قال الشارح رحمه الله: [روى الإمام أحمد والترمذي -وحسنه- وابن جرير وابن أبي حاتم والضياء في (المختارة) عن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ) يقول: شكركم، (أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) تقولون: مطرنا بنوء كذا وكذا، بنجم كذا وكذا)، وهذا أولى ما فسرت به الآية.

وروي ذلك عن علي، وابن عباس، وقتادة، والضحاك، وعطاء الخرساني وغيرهم].

إذا كان كذلك فيكون هذا من الشرك الأصغر، وهو شرك الألفاظ؛ لأنهم ما كانوا يعتقدون أن الكواكب هي التي تنزل المطر؛ ولكن يضيفون نزوله إلى طلوع الكوكب، يعني: أنه وقت طلوعه حصل لنا المطر الذي أنزله الله، وهذا لا يجوز، ويكون من الشرك الأصغر: شرك الألفاظ، فيجب على العبد أن يجتنبه، وأن يقول: نزل المطر بفضل الله وبرحمته، لا بطلوع الكوكب ولا بغيره، ولهذا اختلف العلماء في مجرد اللفظ، وفي كون الإنسان يقول: إن هذا من السبب أو جزء من السبب أو ما أشبه ذلك، فهل يجوز أو لا يجوز؟ الصواب: أنه لا يجوز؛ لأن كله داخل في ذلك، أما لو قال مثلاً: مطرنا في نوء كذا، فهذا مثل أن يقول: مطرنا في الشهر الفلاني، أو في اليوم الفلاني، يعني: أنه حصل المطر في ذاك الوقت، فهذا ليس داخلاً في ذلك؛ لمجيء كلمة (في) الظرفية أما إذا جاء بالباء السببية، فلا يجوز؛ لأن فيه إضافة إلى غير المسبب الموجد.

أما ما سيذكره عن القرطبي رحمه الله: أن من العرب من يعتقد أن الكوكب هو الذي ينزل المطر، وهو الذي يخلقه ويوجده، فهذا غير صحيح، ولا يوجد أحد من خلق الله من يعتقد ذلك، وإنما يجعلون ذلك سبباً أو جزءاً من السبب فقط، ومع ذلك إذا جعله سبباً يكون كفراً أكبراً، بخلاف ما إذا أضافه إضافة لفظية فقط، وعلى ما جرى في الألسن والعادة، فهذا يكون من الشرك الأصغر، وشرك الألفاظ التي يجب أن تجتنب، والرسول صلى الله عليه وسلم حذر من كل لفظ يكون فيه انتهاك لحق الله أو لقدره وعظمته، وحمى الأمة من الوقوع في المحذور، وهذه الحماية هي التي يسميها العلماء حماية جناب التوحيد وسد الذرائع، فسد كل ذريعة توصل إلى الشرك حتى في الألفاظ، وهذا من تمام نصحه صلوات الله وسلامه عليه للأمة.

قال الشارح رحمه الله تعالى: [وهو قول جمهور المفسرين، وبه يظهر وجه استدلال المصنف رحمه الله بهذه الآية].

أي: القول الأول: وهو كونهم يجعلون رزقهم أنهم يكذبون بأنهم يضيفون نزول المطر إلى الكواكب، يقول الشارح: هذا هو قول جمهور المفسرين، ولكن القول الثاني صحيح تدل عليه الآية أيضاً، وكلام الله له معانٍ واسعة كثيرة، والرسول صلى الله عليه وسلم حينما يبين ذلك، إنما يكون بحسب حاجة المتكلم أو السامع، وهذا التفسير هو مثل ما جاء عنه صلى الله عليه وسلم لما سئل عن قوله تعالى: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ} [التوبة:١٠٨] أي مسجد هذا يا رسول الله؟! فقال: (هو مسجدي هذا)، مع أن المعروف أن الآية نزلت في مسجد قباء؛ حينما ساق الله قصة مسجد الضرار، ومسجد الضرار بناه المنافقون قرب مسجد قباء؛ يريدون أن يكون محلاً لاجتماعهم ومؤامراتهم على الإسلام والمسلمين، فجعلوه بصفة المسجد، وزعموا أنه يكون لليلة الشاتية، وللإنسان الضعيف، والشيخ الكبير، أو المريض الذي لا يستطيع أن يصل إلى مسجد قباء، هكذا زعموا، فلما سئل صلى الله عليه وسلم عن هذا المسجد نزلت الآية في شأنه وفي شأن أهله، وأمر الله جل وعلا رسوله صلى الله عليه وسلم ألا يقوم فيه أبداً، وقال: {لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ} [التوبة:١٠٨]، وقد جاء في الصحيح أنه قال لأهل قباء: (إن الله أحسن الثناء عليكم فما هذه الطهارة؟) فأخبروه أنهم إذا قضوا الحاجة غسلوا أدبارهم، أي: استجمروا أتبعوا ذلك بالماء، فقال: (هو ذاكم فعليكموه)، ومع ذلك جاء في صحيح مسلم أنه سئل فقيل له: (أي مسجد هذا الذي أسس على التقوى؟ فقال: هو مسجدي هذا)، أي: إذا كان مسجد قباء أسس على التقوى، فمسجد الرسول صلى الله عليه وسلم من باب أولى أن يكون مؤسساً على التقوى، والقصد من إيراد هذا المثل: أنه إذا ذكر معنى من المعاني للآية، فإنه لا يدل على أن المعنى الثاني باطل أو أنه مردود، والذي ذكره الرسول صلى الله عليه وسلم في تفسير الآية السابقة واضح وأولى أن تفسر الآية به، إلا أنه لا ينفي أن يكون لها معنىً آخر، وهو أن الكفار جعلوا حظهم من القرآن تكذيبه، وجعلوا حظهم من الإيمان والانتفاع به أنهم ردوه وكذبوا به، وبئس الحظ هذا.

قال الشارح رحمه الله تعالى: [قال ابن القيم رحمه الله تعالى: أي: تجعلون حظكم من هذا الرزق الذي به حياتكم: التكذيب به، يعني: القرآن.

قال الحسن: تجعلون حظكم ونصيبكم من القرآن أنكم تكذبون، قال: وخسر عبد لا يكون حظه من القرآن إلا التكذيب].