المؤلف عندما ذكر هذه الآثار أراد أن يختم كتابه بالقسم الثاني من أقسام التوحيد؛ لأن التوحيد ينقسم إلى قسمين: توحيد في القصد والإرادة، والقصد والنية والإرادة تصدر من العبد بنيته وقصده وإرادته، فيجب أن يكون هذا خالصاً لله، وهذا الذي ذكر فيه ما ذكر من أول الكتاب إلى آخره إلى هذا الباب، فذكر ما يخلص القصد والنية والإرادة أو يشوبه تحذيراً من ذلك وتنفيراً منه.
وختم الكتاب فجاء بالقسم الثاني الذي هو توحيد العلم والمعرفة الذي يتعلق بالله جل وعلا بأوصافه وما يجب أن يعرف به، وهذا لا يمكن أن يعرفه الإنسان بعقله أو بقياسه ونظره، وإنما يعرفه عن طريق تعريف الله جل وعلا عباده، فهو يتعرف إلى عباده بما ذكر من أوصافه وأفعاله تعالى وتقدس، وهذا أمر واجب لا يجوز التفريق فيه، ولا يكفي أحد القسمين عن الآخر، فلا يكفي قسم من قسمي التوحيد عن القسم الثاني، بل يجب على العبد أن يجمع بينهما، ولكن لما كان ظهور أدلة هذا القسم وقلة الاختلاف فيه اقتصر على شيء يسير منه، بخلاف القسم الأول؛ فإن أكثر الناس ضلوا فيه بسبب التعلق بالأولياء وطلب شفاعاتهم؛ لأن العبد في الأصل خلق عابد ذليل خاضع، فهو يتلمس الشيء الذي يتلبس به ويتعلق به، فأكثر الناس لم يهتد إلى الطريق السواء طريق الحق، فصار يتعلق ويجعل له وسائط بينه وبين ربه يزعم أنها تقربه وتشفع له، فلهذا السبب أكثر من بيانه وما يجب من أجل إكماله، وما يجب اجتنابه لئلا ينقص أو ينتفي تماماً.
ثم إن القسم الثاني قد أولاه العلماء من العناية ما يكفي وردوا على المخالفين، وبينوا الحق في ذلك، والحق فيه واضح وجلي، بخلاف الأول فإن العناية به أقل من العلماء السابقين، والسبب أن المخالفة فيه سابقاً قليلة، وليست منتشرة كالمخالفة الثانية، والمخالفة التي حصلت في القسم الثاني الذي هو توحيد العلم والمعرفة سببها في الأضل الكيد للإسلام والمسلمين من قبل قوم مشبوهين، سواء كانوا يهوداً أو نصارى أو مجوساً دخلوا الإسلام تستراً لأجل إفساده، لا رغبة فيه، بل لأجل أن يفسدوه، فصار -في الحقيقة- إفسادهم بالغاً جداً، حيث شككوا المسلمين في ربهم، وصاروا يشبهون عليهم بذكر الشبه، ولا شك أن هناك شبهاً يتعلق بها المشبه الذي يشبه على الناس، فالذي ليس عنده علم وليس عنده معرفة قد تنطلي عليه هذه الشبهة؛ لهذا تولى العلماء تبيين هذه الشبه وبيان بطلانها، ووضحوا ذلك في كتبهم المعروفة المنتشرة بأيدي المسلمين والحمد لله.