[بطلان قول من يقول: إن النهي عن الصلاة عند القبور لأجل النجاسة]
[وقال بعض أصحابنا: لا يمنع الصلاة فيها؛ لأنه لا يتناولها اسم المقبرة وليس في كلام أحمد ولا بعض أصحابه هذا الفرق، بل عموم كلامهم يقتضى منع الصلاة عند كل قبر.
وقد تقدم عن علي رضي الله عنه أنه قال: (لا أصلي في حمام ولا عند قبر)، فعلى هذا ينبغي أن يكون النهي متناولاً لحريم القبر وفنائه.
ولا تجوز الصلاة في مسجد بني في مقبرة، سواء كانت له حيطان تحجز بينه وبين القبور، أو كان مكشوفاً، قال في رواية الأثرم: إذا كان المسجد بين القبور لا يصلى فيه الفريضة، وإن كان بينها وبين المسجد حاجز فرخص أن يصلي فيه على الجنائز ولا يصلى فيه على غير الجنائز، وذكر حديث أبي مرثد عن النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تصلوا إلى القبور) وقال: إسناده جيد.
انتهى.
ولو تتبعنا كلام العلماء في ذلك لاحتمل عدة أوراق، فتبين بهذا أن العلماء رحمهم الله بينوا أن علة النهي ما يؤدي إليه ذلك من الغلو فيها وعبادتها من دون الله كما هو الواقع والله المستعان.
وقد حدث بعد الأئمة الذين يعتد بقولهم أناس كثر في أبواب العلم بالله اضطرابهم، وغلظ عن معرفة ما بعث الله به رسوله من الهدى والعلم حجابهم، فقيدوا نصوص الكتاب والسنة بقيود أوهنت الانقياد، وغيروا بها ما قصده الرسول صلى الله عليه وسلم بالنهي وأراد، فقال بعضهم: النهي عن البناء على القبور يختص بالمقبرة المسبلة، والنهي عن الصلاة فيها لتنجسها بصديد الموتى، وهذا كله باطل من وجوه: منها: أنه من القول على الله بلا علم، وهو حرام بنص الكتاب.
ومنها: أن ما قالوه لا يقتضي لعن فاعله والتغليظ عليه، وما المانع له أن يقول: من صلى في بقعة نجسة فعليه لعنة الله، ويلزم على ما قاله هؤلاء: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبين العلة، وأحال الأمة في بيانها على من يجيء بعده صلى الله عليه وسلم وبعد القرون المفضلة والأئمة، وهذا باطل قطعاً وعقلاً وشرعاً، لما يلزم عليه من أن الرسول صلى الله عليه وسلم عجز عن البيان، أو قصر في البلاغ، وهذا من أبطل الباطل، فإن النبي صلى الله عليه وسلم بلغ البلاغ المبين، وقدرته في البيان فوق قدرة كل أحد، فإذا بطل اللازم بطل الملزوم].
وهذا من مقتضى شهادة أن محمداً رسول الله، ومعنى شهادة أن محمداً رسول الله: أن يشهد شهادة يقينية بلا تردد ولا شك أنه رسول من عند الله جاء برسالة الله فبلغها عن الله، وأداها كما أمر الله جل وعلا، وإذا اعتقد أن الرسول ترك شيئاً من الجوانب المهمة أو غير المهمة مما يلزم الناس في دينهم ولم يوضحه ويبينه، فشهادته أن محمداً رسول الله غير سليمة.
ومن المعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمره الله جل وعلا بالبلاغ، وقال: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة:٦٧]، وإذا لم يبلغ الرسالة ماذا يكون؟ توعده الله جل وعلا، ولهذا كان صلوات الله وسلامه عليه يخاف في بعض الأحيان ويستشهد الناس فيقول: (إنكم مسئولون عني فكيف تقولون؟) فيقولون له: نشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، وقمت بما يلزم، ويستشهد ربه ويقول: يا رب اشهد عليهم، اشهد أنهم شهدوا لي بالبلاغ؛ لأنهم سيسألون يوم القيامة، وهو يسأل كما قال الله جل وعلا: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ * فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ} [الأعراف:٦ - ٧].
فلا بد من سؤال المرسل إليه والرسول، ولهذا يقول العلماء: كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون ولا بد إذا وقفوا بين يدي الله: ماذا كنتم تعبدون؟ وبماذا أجبتم المرسلين؟ فلا بد أن يكون ذلك صحيحاً.
فإذاً: يكون معنى شهادة أن محمداً رسول الله: أن يشهد الإنسان أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغ كل ما أمره الله جل وعلا، وقد قال الله جل وعلا في آيات كثيرة لرسوله: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل:٤٤] وقد بين صلوات الله وسلامه عليه كل ما يلزم، وما ترك شيئاً مما يلزمنا إلا ووضحه وبينه غاية البيان.
حتى إنه علمنا آداب الأكل، وآداب قضاء الحاجة، وقال: (إذا أراد أحدكم أن يقضي حاجته فليبعد، ثم ليستتر، ولا يرفع ثوبه حتى يدنو من الأرض)، وما أشبه ذلك من الآداب، وكذلك إذا دخل المنزل يقول: باسم الله، نسأل الله خير المولج، وإذا قدم الطعام يسمي، إذا أوى إلى فراشه يقول: كذا وكذا، وهذه أمور لو تركها الإنسان فليس عليه شيء، ومع هذا فقد بينها صلى الله عليه وسلم، فهل بعد هذا يعتقد أنه يترك الشيء الذي إذا فعلناه أثمنا وربما هلكنا؟ لا يجوز هذا أصلاً.
كيف يقال: إن العلة في هذا النجاسة! إنما العلة أن تخلص العبادة لله، وأن لا يدخل العبادة شيء مما يشوبها أو يفسدها أو يبطلها نهائياً، ولا يحسبن حاسب أن الذين يقصدون القبور ويتبركون بها ويدعون أصحابها: أنهم كلهم عوام، بل فيهم علماء، وهؤلاء العلماء هم الذين أضروهم في الواقع، ففيهم من يحتج به ويقال: إنه عالم، وهو إما يقر ذلك أو يفعله.
وربما تجد من هؤلاء من يدعو الناس إلى عبادته قبل موته، فهذا أحدهم يقول لأصحابه: إذا كانت لأحدكم حاجة بعد موتي فليأت إلى قبري وليسألني! فلا خير فيمن يحول بينه وبين قضاء حوائج أصحابه ذراع من تراب! فهذه دعوة إلى عبادته.
وآخر يقول: إذا كان يوم القيامة نصبت خيمتي على النار فلا أدع أحداً يدخلها! ينصب خيمته على النار! نعوذ بالله من هذا الهوس، وما أشبه ذلك من أقاويل أناس ضلوا في عقولهم بعد ضلالهم في أديانهم، أو أناس ضعاف من دعاة الشيطان يدعون إلى عبادة غير الله جل وعلا، وكل هذا مما يلبس على كثير من الناس ويضرهم.
ومعلوم أن من فعل ذلك وتبعه عليه من تبعه، أن عليه وزره ووزر من تبعه من غير أن ينقص من أوزار الأتباع شيئاً؛ لأنه لا عذر لأحد في ذلك، فالذي يقتدى به ويؤتم بأقواله هو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقط، أما غيره من الناس فيجب أن تعرض أقواله على أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن وافقت أقواله قول رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلت؛ لأنها وافقت قول الرسول صلى الله عليه وسلم لا لأنها أقواله.
فلا أحد يحكم على كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فهما الحجة فقط، وبهما يقوم العذر، أما أفعال الناس وأقوالهم وتقدريراتهم، فليست حجة ولن تنجي الإنسان؛ ولهذا ذكر الله جل وعلا في القرآن عن الملأ من الناس -يعني: الكبراء والعلماء والقادة- أن الضعفاء يشكونهم عند الله يقولون: {رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا} [الأعراف:٣٨] فهل ينفعهم؟ كلا، لا ينفعهم.