للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الشفاعة الجائزة]

وفيه أن الشفاعة التي تطلب من الله تكون بالدعاء، والله جل وعلا أخبر أن الشفاعة لا تقع إلا بعد إذنه؛ لتمام ملكه، كما قال جل وعلا: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:٢٥٥]، وقال تعالى: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء:٢٨]، وقال عز وجل: {وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَوَاتِ لا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى} [النجم:٢٦]، فالشفاعة لا تقع إلا بإذن الله، ولا أحد يستطيع أن يتقدم يطلب الشفاعة من الله إلا يوم القيامة إذا أذن له.

وقد جاء بيان ذلك وتفصيله عن الرسول صلى الله عليه وسلم بياناً واضحاً، فإنه إذا وقف الخلق يوم القيامة لرب العالمين وقوفا طويلاً مدة خمسين ألف سنة، حتى يوجد من الشدة ما يتمنى بعضهم أو كثير منهم أن يقضى بينهم ولو إلى النار؛ لأنهم يتصورون أن ما بعده أهون منه، والأمر بالعكس، فليست النار بأهون منه، وهم مجتمعون كلهم في صعيد واحد، غير أن هذا الوقوف شدته وهوله وسهولته تتفاوت على حسب أعمال الناس، فإذا وقفوا هذا الموقف الهائل يلهمهم الله جل وعلا أن يقولوا: لماذا لا نطلب من الأنبياء أن يشفعوا لنا عند الله حتى يأتي ليفصل بيننا ويريحنا من عناء هذا الموقف الشديد؟ فيقول بعضهم لبعض: من أولى بذلك من أبيكم آدم الذي خلقه الله بيده، وأسجد له ملائكته، وأسكنته جنته؟! فيذهبون إليه -وآدم موجود معهم في الموقف، وكذلك الرسل موجودون معهم في الموقف- فيعرفونه، ويقولون له: أنت أبو البشر، خلقك الله بيده، وأسكنك جنته، وأسجد لك ملائكته، ألا ترى ما نحن فيه، اشفع لنا إلى الله حتى يأتي ليفصل بيننا ويريحنا من عناء هذا الموقف فيعتذر ويقول: إن ربي جل وعلا قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإن ربي نهاني عن أكل الشجرة فعصيته، نفسي نفسي.

اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح فإنه أول رسول أرسله الله جل وعلا إلى أهل الأرض، وقد سماه الله جل وعلا عبداً شكوراً، فيأتون إلى نوح فيعرفونه مع الرسل، ويطلبون منه ذلك فيعتذر مثل ما اعتذر آدم، ويرسلهم إلى إبراهيم ويقول: إنه خليل الرحمن، فيأتون إليه، فيعرفونه ويطلبون منه أن يشفع لهم، فيعتذر ويقول مثل ما قال نوح، ثم يرسلهم إلى موسى ويقول: إن الله فضله بكلامه بلا واسطة، اذهبوا إليه، فيذهبون إليه فيعتذر ويقول: إني قتلت نفساً بغير حق، كما أن إبراهيم عليه السلام يقول: إني كذبت ثلاث كذبات، ويقول نوح عليه السلام: إني دعوت ربي ما ليس لي به علم، اذهبوا إلى غيري، وكلها أمور مغفورة لهم، ولكن الموقف هائل فموسى يرسلهم إلى عيسى عليه السلام فيعتذر، ثم يرسلهم عيسى إلى خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم، فيقول صلى الله عليه وسلم: (فإذا جاءوا إليّ ذهبت إلى مكان تحت العرش، فإذا رأيت ربي سجدت له فيدعني ما شاء الله أن يدعني ويفتح عليّ من المحامد والثناء ما لا أحسنه الآن، ثم يقول جل وعلا لنبيه محمد: ارفع رأسك، واشفع تشفع)، وقبل أن يقول له: (اشفع) لا يشفع، وهكذا كل شافع عند الله لا يشفع حتى يقول له جل وعلا: اشفع؛ لأن الله جل وعلا يقول: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة:٢٥٥]، فلتمام ملكه وعظمة سلطانه ما أحد يتجاسر على طلب الشفاعة قبل أن يأذن له.