[وجوب الإيمان بعذاب القبر، وبيان ضلال من أنكر ذلك]
ثم في هذا الحديث دليل على أن الناس إذا ماتوا تكون أرواحهم في البرزخ في الجنة أو في النار، أو تكون محبوسة معذبة في مكان ما لأنها لا تستحق عذاب النار، وإنما تعذب بما هو أقل من ذلك، ولهذا هذان الرجلان أُحضرا إلى الله بعد موتهما مباشرة إلى الله، فقال لأحدهما: ادخل الجنة.
وقال للآخر: ادخل النار.
وهذه المسألة من الأصول التي خالف فيها أهل البدع، فهم يقولون: الإنسان بعد الموت لا يعذب ولا ينعم؛ لأنه يصبح تراباً.
وروحه أين تذهب؟! قالوا: ما ندري.
وهذا مخالف لكتاب الله ولأحاديث رسوله ولإجماع السلف، فإن الله جل وعلا ذكر عذاب المقبور في آيات كثيرة، كما قال جل وعلا في آل فرعون: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} [غافر:٤٦]، فأخبر أنهم يعرضون على النار بالغدو والعشي لتعذيبهم فيها، ثم يوم القيامة يدخلون أشد العذاب.
ويقول الله جل وعلا: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ * كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:١ - ٣] أي: تعلمون ماذا يكون بعد الموت من العذاب {ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ} [التكاثر:٤] أي: بعد النفخ في الصور.
وقال جل وعلا: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ} [السجدة:٢١]، فالعذاب الأدنى هو: الذي يكون بعد الموت، والأكبر الذي يكون بعد نفخ الصور.
أما الأحاديث فهي كثيرة جداً، منها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (إنه أوحي إليّ أنكم تفتنون في قبوركم مثل أو قريباً من فتنة الدجال)، ومر صلوات الله وسلامه عليه بقبرين قد دفنا حديثاً فقال: (هل تسمعون ما أسمع؟ قالوا: لا.
فقال: إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير ثم قال: بلى -يعني: يعذبان في كبير- أما أحدهما فكان يمشي بالنميمة، وأما الآخر فكان لا يستبرئ من بوله)، فأخبر أن المعاصي تكون سبباً لعذاب القبر، وذكر النميمة، والنميمة هي نقل الحديث للغير على وجه الإفساد.
وأما الآخر فكان لا يستبرئ من بوله، يعني: لم يكن يتنزه من بوله ويتنظف ويتطهر منه، بل كان يصيبه شيء منه ويتركه ولا يبالي به.
فصار من أسباب عذاب القبر، ولهذا يقول العلماء: إن من أسباب عذاب القبر عدم التطهر الطهارة الكاملة، وكذلك من أسباب عذاب القبر أن يكون الإنسان جاهلاً بربه وبدينه، وكذلك من أسبابه بعض المعاصي المعينة كالتهاون في الصلاة والنميمة والإفساد بين الناس، والظلم عموماً، هذه بعض أسباب عذاب القبر.
والمقصود أن العذاب يكون في القبر بعد الموت مباشرة، والقبر اسم لما بعد الموت، وليس بلازم أن يُدفن الإنسان في الأرض، بل لو ألقي في البحر لجاءه عذابه أو نعيمه، ولو أحرقته النار لجاءه نعيمه أو عذابه، ولو أكلته الطيور والسباع لابد أن يأتيه النعيم أو العذاب، والعذاب عند أهل الحق يكون على البدن وعلى الروح معاً، وليس على الروح فقط، والروح تبقى حية لا تموت، وإنما تخرج من البدن ويحصل الموت للبدن، ثم هذا البدن قد يصير تراباً، وقد تأكله النار فيصير رماداً وما أشبه ذلك، وقد يلقى في البحر فتأكله الحيتان ودواب البحر، وقد يخرج من بطونها دقيقاً قد طحنته أجوافها وأسنانها ومع ذلك هذه الأجزاء تعذب أو تنعم، هذه الأجزاء الصغيرة التي صارت تراباً تحس بالألم وتحس بالنعيم.
فالله جل وعلا لا يعجزه شيء، بل قد يدفن جماعة في حفرة واحدة جميعاً ويصبح واحد منهم يعذب وواحد منهم ينعم، وهذا الذي يعذب لا يصل إلى من بجواره من عذابه شيء، والذي ينعم لا يصيب الذي بجواره من نعيمه شيء، وكل هذا من أمور الآخرة التي لا تقاس بأمور الدنيا، وإنما تتوقف على النصوص التي جاءت عن الله وعن رسوله، ففي هذا الحديث بيان أن الله عجل هذا إلى الجنة والآخر إلى النار بعد أن حكم الله جل وعلا بينهما.
وفيه أيضاً أنه يجوز أن يحبط عمل الإنسان بفعل يفعله، فهذا الرجل تكلم بهذه الكلمة فأحبط عمله -نسأل الله العافية-، ولكن مذهب أهل السنة أن الإنسان لا يكفر بالذنوب، ولكنه معرض لعذاب الله، والأمر بيد الله إن شاء عفا عنه وإن شاء عذبه وعاقبه، وإن شاء أحبط عمله مثل هذا.
وفيه أنه لا يجوز لإنسان مهما بلغ من العلم والمعرفة أن يحكم لمعين من الناس بأن هذا في الجنة أو في النار إلا ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم.