للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[شرط تسليط الأعداء على الأمة]

قوله في الغاية: (حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً، وحتى يكون بعضهم يسبي بعضاً) يعني: أن الهلاك مغياً بهذه الغاية، فإذا بدأ ذلك فإنه يأتي ما كتبه الله، ويدل على أن عدم التسليط إذا لم يكن بعضهم يقاتل بعضاً، أما إذا قاتل بعضهم بعضاً فيجوز أن يسلط الله عليهم عدواً، كما هو الواقع، فكلما حصل بين المسلمين خلاف سلط الله عليهم عدواً فأخذ بلادهم وقتلهم، ومن يقرأ التاريخ وينظر فيه يرى العجائب، فالأندلس ذهبت وأصبحت ليس فيها مسلم، محيت نهائياً بعدما كانت دولة كبيرة وفيها من المسلمين والعلماء والصناع والفقهاء والكتاب الشيء الذي عرف وملأ الدنيا، ثم لما صار كل بلد فيها أمير أو خليفة أصبح بعضهم يقاتل بعضاً، فجاءهم العدو واستباح بيضتهم وأهلكهم، ووضعت المحاكم التي يسمونها محاكم التفتيش، يعني: كل إنسان تبين أن عنده شيء من الدين يقتل؛ فانمحى الدين الإسلامي من الأندلس نهائياً، وإلى الآن وهي بيد الكفار.

وكذلك لما كان الخلفاء كل واحد يغير على الآخر، وكل واحد يقتل الآخر؛ سلط الله عليهم التتار فقتلوا الفقهاء والكبراء والعلماء والخليفة وغيرهم، بدءوا بالعلماء.

وقد ذكر ابن الأثير في تاريخه ما حصل من التتار، وقتلهم للمسلمين، وقال: لقد ترددت كثيراً هل أكتب ذلك أو لا أكتبه، فإن النفس لم تقدم على ذلك؛ لما فيه من الأمور التي تدمي الكبد، ولكن لا بد من تسجيل التاريخ، وذكر أنهم قتلوا في يوم واحد ثلاثة ملايين في بغداد! حتى أصبحت الخيل تمشي على الجثث والدماء تصل إلى ركب الخيل، وأخذوا الكتب من مكتبات المسلمين وألقوها في النهر حتى أصبح ماء النهر متغيراً من الحبر، فعاثوا في الأرض فساداً، شيء عظيم جداً، مقتلة ما صار مثلها، ثم استمر القتل حتى فسد الهواء، فصاروا يموتون موتاً ذريعاً، وتركوا البلاد وقد أخربوها.

ثم عادت الكرة مرة أخرى، وجاءوا إلى دمشق في وقت تيمور الأعرج الخبيث الظالم العنيد الذي جاء من سمرقند، فصنع فيها كما صنع التتار، وحصلت أشياء كثيرة، ولكن ليس معنى هذا أنه يقضى على الأمة نهائياً، لا بد أن يبقى فيها طوائف، غير أنه قد يقضى على معظمها، فإذا قتل الخليفة وقتل جنوده وقتل العلماء وقضي على بلاد الخلافة، فتبقى الأمور ضعيفة، ويكون المسلمون في ارتباك وخوف شديد.

فالمقصود: أن ما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم وقع كما أخبر صلوات الله وسلامه عليه.

ثم قوله بعد هذا: (وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين) الأئمة يقصد بهم العلماء والأمراء، هؤلاء هم الأئمة، وإذا صلح العلماء والأمراء فالناس تبع لهما، وإذا فسد هذان الصنفان فالناس كلهم يفسدون، وهؤلاء هم الأئمة الذين يؤتم بهم ويقتدى بهم، وإذا كانوا ضالين فالناس يضلون تبعاً لهم.