للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مسائل باب لا يذبح لله بمكان يذبح فيه لغير الله]

[فيه مسائل: الأولى: تفسير قوله: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا} [التوبة:١٠٨].

الثانية: أن المعصية قد تؤثر في الأرض وكذلك الطاعة.

الثالثة: رد المسألة المشكلة إلى المسألة البينة ليزول الإشكال].

قوله رحمه الله: [فيه مسائل] يعني: في الباب الذي سبق مسائل في المعنى المراد من كون المكان الذي يذبح فيه لغير الله لا يجوز الذبح فيه لله جل وعلا، فذكر منها أولاً: تفسير قوله تعالى: (لا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا)، والمقصود نهي الله جل وعلا لنبيه صلى الله عليه وسلم عن القيام والتعبد لله في المسجد الذي قصد به الإضرار بالمسلمين، وقصد به أن يكون محلاً لمأوى المحاربين لله جل وعلا ولرسوله، فصار ذلك المكان مكان معصية لا يقام فيه للتعبد لله جل وعلا.

وقوله: (أَبَدًا) يدل على أن هذا الحكم مستمر في هذه البقعة أبداً، وأخذ من هذا: أن المعصية تؤثر في الأماكن كما أن الطاعة تؤثر في الأماكن، ومن ذلك كون المساجد أحب بقاع الأرض إلى الله جل وعلا لتأثير الطاعة فيه.

ومنه كون البيت الذي تقرأ فيه سورة البقرة وآل عمران يفر منه الشيطان، ولا يدخله أبداً، وما أشبه ذلك كثير، هذا من تأثير الطاعة في المكان.

وأما كون المسألة المشكلة ترد إلى المسألة الواضحة، أو أن المسألة التي فيها إجمال ترد إلى المسألة التي يكون فيها التفصيل فهذا أخذ من قوله صلى الله عليه وسلم: (هل كان فيه وثن من أوثان الجاهلية؟ هل كان فيه عيد من أعيادهم؟) فلما أخبر أنه ليس فيه شيء من ذلك، أخبره بالحكم، وهو أنه يجب الوفاء بهذا النذر.

والمسألة المجملة هي قوله: (إني نذرت أن أنحر إبلاً ببوانة)، فهذا شيء مجمل، يحتمل أن تكون في بوانة وثن، ويحتمل أن يكون فيها عيد من أعياد الجاهلية فجاء التفصيل.

والمقصود بهذا أن المفتي يجب عليه أن يستفصل من المستفتي في كلامه؛ لأنه قد يكون هناك تفصيل، والحكم يختلف باختلاف الإجمال والتفصيل.

[الرابعة: استفصال المفتي إذا احتاج إلى ذلك.

الخامسة: أن تخصيص البقعة بالنذر لا بأس به إذا خلا من الموانع].

يعني: كون المكان يخصص بأن يذبح فيه لله جل وعلا كذا وكذا؛ جائز إذا لم يكن هناك مانع من الموانع التي فهمناها من هذا الحديث، وهكذا الصلاة، والاعتكاف، والصوم، وما أشبه ذلك له هذا الحكم إلا أنه لو نذر أن يعتكف في مسجد من المساجد غير المساجد الثلاثة فإنه لا يتعين، بل يعتكف في أي مسجد من المساجد؛ لأنه إذا كان هذا يتطلب سفراً فإن حديث الرسول صلى الله عليه وسلم دل على المنع، وهو الحديث المتفق عليه: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد) يعني: لا تشد الرحال لأداء العبادة (إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، ومسجد الحرام، ومسجد الأقصى) ولهذا لما سئل الإمام مالك رحمه الله عن رجل نذر أن يأتي مسجد قباء، فقال: يأتي مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ويكفي، فسئل عن رجل نذر أن يأتي المدينة، فقال: إن كان أراد الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يلزمه ذلك وإلا لا يجوز لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد).

فالمقصود أن تخصيص البقعة بالنذر إذا كانت خالية من الموانع فلا بأس بها، وذلك جائز.

[المسألة السادسة: المنع منه إذا كان فيه وثن من أوثان الجاهلية ولو بعد زواله.

المسألة السابعة: المنع منه إذا كان فيه عيد من أعيادهم ولو بعد زواله].

العيد قد مر أنه اسم لزمن يعود ويتكرر، ويكون اسماً للمكان، ويكون اسماً للعمل، كالأعمال التي تفعل في وقت معين، والأعياد في هذه الأزمان -أعياد الجاهلية- كثيرة جداً، أصبح لكل مناسبة عيداً، وسواء سموه عيد الشجرة أو عيد المعلم، أو غير ذلك، كلها أعياد جاهلية؛ لأن الإسلام ليس فيه إلا عيدان: عيد الفطر وعيد الأضحى، ولهذا قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (إن الله أبدلكم بأعياد الجاهلية عيدين في الإسلام: الفطر والأضحى) فالمسلمون ليس لهم إلا هذين العيدين.

والذي يشارك في الأعياد الأخرى هو يشارك في أفعال الجاهلية مخالفاً أمر الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فيكون بذلك آثماً.

لا بأس بكون الناس يهتمون بأمر الزراعة أو يهتمون بأمر الصحة، أو يهتمون بأمور دينهم وديناهم، ولكن لا يجعل يوماً معيناً يسمى عيداً، وإنما هذا الشيء النافع يكون الاهتمام به مطلقاً؛ لأن الشيء الذي يهم المسلمين في أمر دينهم أو دنياهم أمر مطلوب منهم شرعاً، ولا يكون مخصصاً في وقت من الأوقات؛ لأن تخصيصه في وقت من الأوقات أو يوم من الأيام اتباع لأعداء الإسلام، فيكون فيه مشابهة، فيكون ممنوعاً من هذا الباب ومن هذه الناحية، فهو ممنوع من باب المشابهة، أي: مشابهة الكفار.

ومعلوم أن الإنسان إذا رأى من يوافقه في عمل من الأعمال أو في لباس وهيئة فإنه يحب الميل إليه، ويجد شيئاً من المودة له، وهذا شيء جبلت عليه النفوس، ومن هنا جاء الشرع بالنهي عن التشبه بالكفار، قال صلى الله عليه وسلم: (من تشبه بقوم فهو منهم).

[المسألة الثامنة: أنه لا يجوز الوفاء بما نذر في تلك البقعة؛ لأنه نذر معصية].

هذا إذا كان فيها وثن أو كان فيها عيد، فيصبح نذر معصية، ودل هذا على أن نذر المعصية لا يجوز الوفاء به، بل يحرم أن يفي الإنسان بنذر المعصية، إذا نذر مثلاً: أن يشرب الخمر، حرام عليه أن يفي بنذره أو نذر ألا يصلي حرام عليه أن يفي بنذره، لا وفاء بنذر في معصية الله جل وعلا.

[المسألة التاسعة: الحذر من مشابهة المشركين في أعيادهم ولو لم يقصده].

يعني: لو لم يقصد المشابهة ولو في الصورة فإنه ممنوع للمسلم أن يكون مشابهاً للكافر ولو في مجرد صورة العمل والفعل من غير أن يقصد موافقتهم في ذلك؛ لأن قوله: (من تشبه بقوم فهو منهم) عام؛ ولأن نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عن التشبه بالكفار مطلق، حتى جاء النهي في العبادة، لما قيل له صلى الله عليه وسلم: (إن اليهود يصومون يوم عاشوراء، قال: لئن عشت إلى السنة القابلة لأصومن التاسع) يعني: مخالفة لهم، ومخالفتهم مطلوبة.

[المسألة العاشرة: لا نذر في معصية].

يعني: أن النذر في المعصية محرم لا يجوز، وكذلك الوفاء به.

[المسألة الحادية عشرة: لا نذر لابن آدم فيما لا يملك].

وذلك كونه ينذر شيئاً لا يملكه، كأن ينذر مثلاً أن يتصدق بمال فلان، أو بعبد فلان، أو بسيارة فلان أو ما أشبه ذلك، فهذا لا يجوز الوفاء به، وهل يلزمه بذلك كفارة؟ فيه خلاف بين العلماء، منهم من يقول: يلزمه كفارة يمين كنذر المعصية، وقد جاء الحديث في هذا، ومنهم من يقول: لا يلزمه شيء لقوله صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث: (لا نذر في معصية الله، ولا فيما لا يملك ابن آدم) ولم يذكر كفارة.

ولكن من المعلوم أنه إذا جاء حديث آخر يثبت حكماً زائداً على الحديث الذي قبله أو الحديث المروي أنه لا يكون هناك معارضة فيؤخذ بالحكم الزائد، ويبقى العمل بالجميع.