[الصبر على مكدرات الدنيا وأذية أهلها]
هذه الدنيا طبعت على المكدرات والآلام، وخلقت للابتلاء بتلك المكدرات والآلام، فإن كان المبتلى مؤمناً وصبر؛ فإنه سوف يلقى الجزاء على ذلك، ويصبح صبره حلواً، والآلام التي مرت به يستلذها؛ لأنها وقعت في طاعة الله ومرضاته.
أما الآخر فبالعكس: الآلام التي تستقبله بالنسبة لما مضى لا يمكن أن تنسب، لا نقول: حر مثل حر الشمس بالنسبة إلى حر جهنم، فجهنم أشد وأعظم؛ لأن الأولى عبارة عن ساعات نسيت، بعكس الأخيرة.
فإذاً الحزم أن يعزم الإنسان على طاعة ربه في هذه الدنيا، ولا يلتفت إلى المؤذيات والمنكدات، سواء من الناس أو من الأقدار التي يقدرها الله عليه أو غير ذلك، وليعلم أن كل ما يصيبه فإنه بسبب معاصيه، والله جل وعلا جعل بحكمته العداء بين أهل الحق وأهل الباطل منذ أبى الشيطان أن يسجد لأبينا آدم، فمن ذلك الوقت والحرب قائمة بين الحق والباطل، ولكل منهما جنود وأنصار، والله يبلو بعضهم ببعض، فأحياناً تظهر بارزة وأحياناً تكون في النفس، من الأمور التي يقدرها حتى يظهر ما لدى الإنسان، ومعلوم أن الله جل وعلا علام الغيوب لا يخفى عليه شيء، يعلم الشيء الذي سوف يكون أنه يكون كذا وكذا، كما جاء في الحديث الصحيح: أنه يقال للكافر وهو في النار: (أرأيت لو كانت لك الدنيا بما فيها أكنت مفتدياً هذا العذاب؟ فيقول: نعم وأكثر من ذلك، فيقول الله جل وعلا: أردت منك ما هو أقل من هذا، أردت منك ألا تشرك بي وأنت في صلب أبيك آدم، فأبيت إلا الكفر والشرك)، ومعنى هذا: أن الله علم ما سيفعله هذا المخلوق قبل وجوده، وأنه سيأبى الإيمان، وأنه سيكفر إذا وجد، فكتب الله جل وعلا ذلك قبل أن يوجد الناس وهم في أصلاب آبائهم، كتب ذلك وعلمه، والله جل وعلا لا يؤاخذ على كتابته وعلمه، فلابد أن يظهر العمل بارزاً مشاهداً فيعذر من الخلق، ولهذا أرسل الرسل، وأنزل الكتب حتى تقوم الحجة على الناس.
والمقصود: أن الحرب قائمة بين الحق والباطل، ولكل واحد منهما أنصار وجنود، فعلى العبد أن يجتهد كل الاجتهاد أن يكون من أنصار الحق وأعوانه، وألا يتأثر بالباطل ودعاياته، وقد يصيبه أذى من أهله، فإن تأثر من ذلك فإنه سوف يكون على حساب نفسه، إما أن ينتكس معهم ويصبح من أهل العذاب، أو يكون ضعيف الإيمان وقد نال منه العدو ما نال؛ فينقص من درجته يوم القيامة ومن ثوابه على أقل تقدير، وقد يناله عذاب في الدنيا وعذاب في القبر وعذاب يوم القيامة حتى يطهر لكونه لم يجاهد في الله، والجهاد أنواع: منها جهاد الشيطان، وجهاد العدو الخارجي، وجهاد النفس، وهذه هي التي يجب أن يصبر الإنسان فيها ويصابر ويثابر، ولا يتعجل الأمر فهو قريب، وهو أمر عام لكل أحد.
أما ما ذكر في الآية فهو أخص من هذا؛ فالله جل وعلا ذكر أنه إذا أرسل رسولاً إلى الناس فمنهم من يقول: آمنا بألسنتهم، ثم إذا وقع لهم أذى من حروب أو خوف، أو أصيبوا بمصائب في أنفسهم إذا هم ينتكسون ويرجعون، ويقولون: هذه كلها بأسباب هذا الدين، ما لنا وله، ثم يتركونه، وهذا معنى كونهم جعلوا فتنة الناس كعذاب الله، يعني: أنهم توقوا ما يصيبهم من أذى الناس بترك الإيمان، ووافقوهم على مطلوبهم وما يريدون؛ حتى يسلموا من أذيتهم، تصوروا أن هذا فيه السلامة، فتجد أحدهم يلاقي المؤمنين مخبراً لهم بأنه معهم بلسانه، وهو كاذب في قرارة نفسه، فإذا خلا بالمنافقين أصحابه أو بالكافرين صار يضحك معهم ويسخر، ويقول: أنا أستهزئ بأولئك وأوافقهم لآتيكم بأخبارهم، وإلا فأنا معكم قلباً وقالباً، فهذا وأمثاله الذين ذكرهم الله في الآية، ولهذا قال مجاهد وابن عباس: إنه يترك دينه، والمعنى: أنه يترك دينه لأجل الخوف مما يصيبه من أذى الناس، ويتركه موافقة لهم؛ لأنهم لابد أن يحاربوه.
ثم بعد ذلك ماذا يكون؟ تنتهي الأمور، وتكون العاقبة -ولابد- للمتقين للصابرين الذين صبروا على الأذى، وتحملوا ذلك في طاعة الله جل وعلا، كما أخبر الله جل وعلا في كتابه أن هذه عاقبة المؤمنين دائماً، وأن العاقبة للتقوى، وأن عباد الله هم الذين تكون لهم عقبى الدار، لكن المنافق إذا جاءت النتائج صار يتأسف على مامضى، أو صار يأتي إلى المؤمنين ويقول: أنا كنت معكم -يعني في الظاهر- هذا إذا حصل لهم من المغنم ومن أمور الدنيا جاء إليهم، يقول ذلك حتى يصيب ما يصيب من أمور الدنيا، وإلا فهو في الحقيقة ليس معهم.
والمقصود: أنه تعجل دفع أذية الخلق، ولم يبال بعذاب الله جل وعلا؛ إما لأنه كان مستبعداً له ويقول: هذا بعيد، والحياة طويلة، ولا يمكن أن تتغير الأحوال، أو أنه يكذب به نهائياً ولا يؤمن به، فإذا كان لا يؤمن به، فهذا معناه أنه لا يرجى له خير أبداً.
أما إذا كان يستبعده، فهناك أمل ضعيف أنه يتوب ويستدرك، والغالب أنه لا يتوب؛ لأن الذنوب بعضها يجر بعضاً، وتتراكم على القلب، ثم يأتي الران الذي يغطي القلوب، ثم ينتكس القلب، ويشرب حب المعاصي وكراهية الطاعة، فيصبح هالكاً مستحكماً هلاكه، والغالب أنه يكون بهذه المثابة، ولا يسلم وسوف ينتهي، وربما انقلبت عليه الأمور التي يقدرها وينظر إليها، فيصيبه العذاب من حيث لا يحتسب.
والمقصود: أن الإنسان في هذه الحياة لابد أن يختبر ويمتحن، وعند الاختبار والامتحان يكرم المرء أو يهان إما أن تظهر كرامته أو يظهر هوانه؛ لأن هذا نتيجة عمله فهو يجزى بالعمل، وهذا شيء لابد منه للخلق كلهم في هذه الحياة، والابتلاء والامتحان يكون -كما مر- بأمر الله جل وعلا ونهيه، فمن أطاع أمر الله واتبعه وحرص على ذلك -وإن خالفه القريب والبعيد- فإنه سوف يكون في طمأنينة في نفسه، وإن أوذي واشتد أذاه، ففي مستقبله سوف يكون في غاية السعادة.
أما إن كان على العكس من ذلك فإنه لا يعجز الله، وسوف يأخذه في الدنيا، ثم مصيره إلى عذاب الله، هذه هي حقيقة الأمر للناس كلهم، وقد يعافى الإنسان -ولكن هذا قليل- من الابتلاء في الدين، أو من أذية الناس، وتبقى مصائب الدنيا ومحن القدر التي ليس منها مفر، ولا يسلم منها أحد، فينظر الله هل يصبر على هذه الأقدار والمصائب أم يعترض ويتضجر؟ وبهذا الامتحان يتخلص المؤمنون وتيطهروا من كل أدناس الذنوب والعيوب، إلا أن مصائب الدين أعظم وأشد وأنكى من مصائب النفس والمال والولد.