[ما يترتب على عدم العزم في المسألة]
قوله في الصحيح: (لا يقل أحدكم: اللهم اغفر لي إن شئت؛ لأن الله لا يتعاظمه شيء)؛ لأن الله لا مخلف له، وفي رواية أخرى: (فليعزم المسألة وليعظم الرغبة فإن الله لا يتعاظمه شيء).
تعليق سؤال الله أمور الدنيا أو أمور الآخرة بالمشيئة لا معنى له، بل هو من المحرمات، كما يدل عليه الحديث ويدل عليه المعنى، وذلك أن الذي يعلق السؤال بمشيئة الله لا يخلو: إما أن يعتقد أن إعطاء الله جل وعلا له ذلك قد يكون عن إكراه من الله، وهذا تنقص لله جل وعلا، فإن الله لا يحمله سؤال السائل على أن يعطي شيئاً لا يريده، فهو تعالى الله وتقدس لا يحمله إلحاح الملح على أن يعطي شيئاً وهو لا يريد إعطاءه؛ لأن كل شيء بمشيئته، فالملك كله له، والخلق كله له، يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، ولا أحد يحمله على أن يفعل شيئاً وهو لا يريد.
ومثل ذلك ما يلهج به كثير ممن لم يعرف الله حق المعرفة، فيسأل الله بالمخلوقين، كأن يقول: أسألك بفلان، وأسألك بنبيك فلان، وبكذا وكذا، يتصور أنه إذا سأله بفلان فأنه يعطيه أكثر مما لو سأله بأسمائه وصفاته سبحانه؛ لأن فلاناً يحمله على العطاء، تعالى الله وتقدس، وهذا تنقص لله جل وعلا، فهذا معنى.
المعنى الثاني: أن قوله: (اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت) يعطي مفهوماً خاطئاً وهو: أن هذا السائل كأنه يقول: إن حصل لي ذلك المطلوب وإلا ليس بلازم، وهذا يشعر بالاستغناء عن السؤال، وهذا أيضاً لا يجوز أن يقع من العبد، العبد يجب عليه أن يظهر الفقر والفاقة والرغبة الشديدة، وأنه لا غنى له عن ربه وعن سؤاله.
وهناك معنىً ثالث: وهو ما أشار إليه في الحديث: (إن الله لا مكره له)؛ لأنه قد يقول: هذا الشيء عظيم، وهذا الذي أسأل الله أن ييسره لي أنا ما أستحق هذا الشيء، فيعلقه بالمشيئة، فهذا أيضاً لا يجوز؛ لأن الله جل وعلا مثلما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا يتعاظمه شيء) يعني: ليس عنده شيء عظيم.
وقد قال بعض الناس في مخلوق: وتكبر في عين الصغير صغارها وتصغر في عين العظيم العظائم ونحو ذلك، ورب العالمين جل وعلا هو أكرم الأكرمين، وعطاؤه بلا عد ولا حساب، يعطي من يشاء، يعطي الجنة والجنة لا ثمن لها، لا يمكن أن يحصل الإنسان على شيء يساوي قيمة الجنة، وإنما هي بفضل الله تعالى يتفضل بها على عبده، كما أنه تفضل عليه بالإيمان وهداية القلب والتوفيق، كذلك تفضل عليه بأن يدخله الجنة، فلا يجوز للإنسان أن يعتقد أنه إذا سأل الله مسألة أن يقول: هذا شيء كبير بالنسبة إلى الله، هذا لا يجوز، كل شيء بالنسبة لله جل وعلا صغير.
إذاً: هذه الأمور، وهذه المعاني الثلاثة، تمنع من أن يعلق الإنسان سؤال الله بالمشيئة، وهذا في المسألة التي يسألها الإنسان ربه ويدعوه، بخلاف الخبر الذي يخبر به، فإن كونه يخبر عن شيء سيقع، هذا يعلق بالمشيئة؛ لأنه لا يقع شيء إلا بمشيئة الله.
ولا يشكل على هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم في سلامه على الموتى: (من أتى إلى المقبرة فليقل: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا -إن شاء الله- بكم لاحقون).
فمعلوم أن الموت لابد منه، ولكن التعليق هنا بالمشيئة لما يكون عليه الإنسان؛ لأنه لا يدري ماذا يموت عليه؟ ولا يدري أين يموت؟ هل سيكون مع هؤلاء أو مع غيرهم؟ وهل يكون موته على الإيمان أو على غيره؟ فهو يعلق المشيئة على ذلك؛ لأنه لا يدري ماذا يقع له؟ لا يدري هل يكون مع هؤلاء المسلم عليهم، أو يكون مع غيرهم؟ وهل يكون على الإيمان الذي كانوا عليه، أو لا يكون على ذلك؟ فلهذا قال: (وإنا إن شاء الله بكم لاحقون).
وأما قول الله جل وعلا: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ} [الفتح:٢٧]، فهذا خبر عن أمر سيقع، وكل شيء سيقع يعلق بمشيئة الله جل وعلا.
وأما قوله جل وعلا في ذكر أهل الجنة وأهل النار: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} [هود:١٠٧]، وقوله في أهل الجنة: {خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود:١٠٨].
فالمقصود أنه جاء بالاستثناء هذا (إلا ما شاء ربك) -والله أعلم- ليبين جل وعلا أن الخلود والأبدية بمشيئته، وأن أهل الجنة وأهل النار لم يكتسبوها بذواتهم وأعمالهم، وإنما الله جل وعلا هو الذي أعطاهم ذلك، ولو شاء لغير الواقع، فيكون مثل قوله تعالى: {أَفَلَمْ يَيْئَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا} [الرعد:٣١]، والناس أكثرهم غير مهتدٍ، وهذا يبين لنا أن كل شيء بيد الله؛ حتى لا يطمع طامع ويقول: إنه اكتسب صفة من صفات الله جل وعلا وهي البقاء السرمدي في الجنة، وإنما أعطي ذلك فضلاً من الله جل وعلا.
هذا هو الذي يظهر في معنى الاستثناء بالنسبة لأهل الجنة، وكذلك لأهل النار، وأما الاستدلال بهذه الآية على أن النار تفنى فهو استدلال غير صحيح، فقد ذكر الله جل وعلا آيات صريحة في أنها باقية، والقول بفنائها استناد على مفهوم هذه الآية هو من أقوال أهل البدع.