للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الرد على أهل التعطيل والتشبيه]

قال الشارح رحمه الله تعالى: [فإن هؤلاء الجهمية ومن وافقهم على التعطيل جحدوا ما وصف الله به نفسه ووصفه رسوله من صفات كماله ونعوت جلاله، وبنو هذا التعطيل على أصل باطل أصلوه من عند أنفسهم، فقالوا: هذه الصفات هي صفات الأجسام، فيلزم من إثباتها أن يكون الله جسماً هذا منشأ ضلال عقولهم لم يفهموا من صفات الله إلا ما فهموا من خصائص صفات المخلوقين، فشبهوا الله في ابتداء أرائهم الفاسدة بخلقه، ثم عطلوه عن صفات كماله، وشبهوه بالناقصات والجمادات والمعدومات، فشبهوه أولاً وعطلوه ثانياً، وشبهوه ثالثاً بكل ناقص ومعدود.

فتركوا ما دل عليه الكتاب والسنة من إثبات ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله على ما يليق بجلاله وعظمته، وهذا هو الذي عليه سلف الأمة وأئمتها، فإنهم أثبتوا لله ما أثبته لنفسه، وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم إثباتاً بلا تمثيل، وتنزيهاً بلا تعطيل، فإن الكلام في الصفات فرع عن الكلام عن الذات يحتذي حذوه، فكما أن هؤلاء المعطلة يثبتون لله ذاتاً لا تشبه الذوات فأهل السنة يقولون ذلك، ويثبتون ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من صفات كماله ونعوت جلاله، لا تشبه صفاته صفات خلقه، فإنهم آمنوا بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يتناقضوا، وأولئك المعطلة كفروا بما في الكتاب والسنة من ذلك، وتناقضوا، فبطل قول المعطلين بالعقل والنقل -ولله الحمد والمنة- وإجماع أهل السنة من الصحابة والتابعين وتابعيهم وأئمة المسلمين.

وقد صنف العلماء رحمهم الله تعالى في الرد على الجهمية والمعطلة والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم في إبطال هذه البدع وما فيها من التناقض والتهافت، كالإمام أحمد في رده المشهور، وكتاب (السنة) لابنه عبد الله، وصاحب (الحيدة) عبد العزيز الكناني في رده على بشر المريسي، وكتاب (السنة) لـ أبي عبد الله المروزي، و (رد عثمان بن سعيد على الكافر العنيد) وهو بشر المريسي، وكتاب (التوحيد) لإمام الأئمة محمد بن خزيمة الشافعي، وكتاب (السنة) لـ أبي بكر الخلال، وأبي عثمان الصابوني الشافعي، وشيخ الإسلام الأنصاري، وأبي عمر بن عبد البر النمري، وخلق كثير من أصحاب الأئمة الأربعة وأتباعهم وأهل الحديث، ومن متأخريهم أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامه، وشيخ الإسلام ابن تيمية وأصحابه، وغيرهم رحمهم الله تعالى، فلله الحمد والمنة على بقاء السنة وأهلها مع تفرق الأهواء وتشعب الآراء.

والله أعلم].

من المعلوم أن كتاب الله جل وعلا هو وحيه وقوله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ لأنه تنزيل من حكيم حميد جل وعلا، يعلم ما يكون ويعلم ما لم يكن لو كان كيف يكون، ويعلم الكائنات السابقة، وعلمه سابق لكل شيء، ولا يفوته شيء، هو محيط بكل شيء جل وعلا، كما قال سبحانه: {هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} [الحديد:٣]، وهو الله جل وعلا: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١]، فهو كامل بذاته وبصفاته وبأفعاله لا يتطرق إليه نقص بوجه من الوجوه، تعالى الله وتقدس.

ولكن من حكمة الله جل وعلا أنه جعل لعباده أموراً يختبرهم ويبتليهم بها، وهي أمور غيبية يخبرهم بها حتى يتبين من يصدق في إيمانه واتباعه ممن يتبع هواه أو يتبع من يعظمه من المخلوقين، وبذلك يتميز الصادق من الكاذب، ويتميز الذي يستحق الثواب ممن يستحق العقاب، وإن كان الله عالماً بكل شيء يعلم من الذي سيصدق قبل وجوده، ويعلم من الذي ينحرف ويلحد قبل وجوده، وقد كتب ذلك جل وعلا في كتاب لا يضل ولا ينسى، كتاب لا يغادر شيئاً، ولا يقع إلا ما في هذا الكتاب، وذلك من كمال علمه.

ولما كان جل وعلا رحيماً بعباده صار كل شيء يحتاج إليه العباد وجوده أكثر وأعم وأشهر، ولهذا صار الناس بحاجة ضرورية ماسة جداً إلى الماء، وصار وجوده كثيراً جداً، وكذلك الهواء، وكذلك الملح وغير ذلك، ومن ذلك معرفته جل وعلا، فطرق معرفته جل وعلا كثيرة جداً لا حصر لها، تعرف إلى خلقه بأمور كثيرة، حتى قال القائل: وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد تعالى الله وتقدس.

فالدلائل عليه من أفعاله ومن خلقه ومن آياته الكونية والمنزلة التي نزلها على رسوله صلى الله عليه وسلم كثيرة جداً.

أما الخلقية فهي كثيرة جداً، وهي قريبة جداً، حتى قال جل وعلا: {وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} [الذاريات:٢١] أي: وفي أنفسكم آيات تدلكم على الله جل وعلا، فذكر صفات الله جل وعلا وأسمائه في كتاب الله جل وعلا كثير جداً، حتى قل آية إلا وتجد فيها اسماً من أسماء الله أو صفة من صفاته، وهذا له حكمة، ذلك أن الله جل وعلا بعلمه الأزلي علم أن الناس يحتاجون إلى هذا، وعلم بوجود الذين يحاولون إضلالهم وإخراجهم من دينهم.

وهذا حدث بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلا ففي وقته لم يكن أحد ينكر أسماء الله جل وعلا إلا نوادر وشواذ، كما ذكر في هذا الباب في سبب نزول قوله جل وعلا: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:٣٠] ذكر أن طائفة من قريش وليسوا كلهم -عناداً وتكبراً- أنكروا أن يكتب الرسول صلى الله عليه وسلم (بسم الله الرحمن الرحيم)، وقالوا: الرحمان ما نعرفه، وإنما نكتب كما كان آباؤنا يكتبون، وهذا مثل قولهم: لا نعبد إلهاً واحد وإنما نعبد ما كان آباؤنا يعبدون، وليس معنى ذلك أنهم ينكرون ويلحدون في صفات الله جل وعلا مطلقاً، وإنما ذلك للعناد والتكبر، ومع ذلك بيّن ربنا جل وعلا أن هذا كفر، فإذا كانوا قالوا: ما نعرف أن الرحمن من أسماء الله، وإنما نكتب (باسمك اللهم) كما كان آباؤنا يكتبون فإن هذا عده الله جل وعلا كفراً فقال: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:٣٠] فكيف بالذي ينكر معاني الأسماء؟! لأن الأسماء أخذت من المعاني، فالرحمان أخذ من الرحمة، والعزيز من العزة، والحكيم من الحكمة، والعليم من العلم، وهكذا كل اسم اشتق من الصفة، والصفات هي المعاني التي دلت الأسماء عليها؛ لأنها أخذت منها، فالذي ينكر الصفات أعظم جرماً وإثماً وكفراً من الذين أنكروا مجرد الأسماء، فالصفات أهل البدع لا يؤمنون بها بل ينكرونها، حتى سرى هذا الوباء وهذا المرض إلى أكثر المسلمين وللأسف، وأقصد بالمسلمين طلبة العلم، أما العوام فالله جل وعلا فطرهم على الحق فهم لا ينكرون ذلك بل يقرون به، وإذا جاءهم الخبر من الله صار مطابقاً لما في فطرهم فأقروا وآمنوا به، ولكن المقصود الذين تغيرت فطرهم بالتعليم، الذين تلقوا عن شيوخهم الكفر بالصفات وجحدها.

وهذا الكفر بالصفات أنواع، فمنه جحود وإنكار مطلقاً، ومنه طرق ملتوية، كالذين لا يجحدون النصوص ولكن يؤولونها تأويلاً يؤول بهم إلى إنكارها، وهؤلاء هم الأشاعرة، وأما الذين أنكروها رأساً فهم المعتزلة ومن سلك طريقهم من الطوائف، وربما يقول قائل: هؤلاء -والحمد لله- لا وجود لهم، فلماذا يُذكرون؟ ولماذا تنبش القبور وتذكر بشيء كان فبان ولا داعي إلى ذلك، وإنما الواجب أن يذكر الشيء الذين ينفع المسلمين ويفيد السامعين مما هم فيه وما يُحذر ويخشى عليهم منه؟ فنقول: إن لكل قوم وارثاً ولاشك، وأولئك لم يذهبوا، فقد ورثهم من ورثهم، وإن اختلفت الأسماء واختلفت الأنظار والطرق حسب اختلاف الزمن، وإلا فالمسألة واحدة فيما تؤول إليه.

والواقع أن أصل الملاحدة الذين ينكرون الآخرة، وينكرون وجود الله، وينكرون أن يكون بعد هذه الحياة حياة تكون حياة جزاء أصلهم مأخوذ من أولئك؛ لأن الإنسان العاقل إذا سمع أولئك يقولون -مثلاً-: إن الله ليس فوق وليس تحت، وليس يميناً وليس شمالاً، وليس داخل العالم ولا خارج العالم، وليس في مكان ولا يجري عليه زمان، إذا سمع الإنسان مثل هذا القول ماذا يتصور في ذهنه؟ يقول: لا وجود له، وهذا هو العدم تماماً، وهذه هي العقيدة الفاسدة الخبيثة التي سلكها أولئك، فينكر وجود الله جل وعلا ثم بناءً على ذلك ينكر الجزاء، وينكر الإعادة، وينكر الجنة النار، ويقول: إنما هي حياة مادة فقط، وليس بعد ذلك شيء، وإنما تبقى هذه الأيام وهذه العوالم على ما هي عليه دائماً قوم يموتون ثم يرثهم آخرون وهكذا، فيقال لهم: هؤلاء الذين يموتون من أين أتوا؟ ومن الذي جاء بهم؟ وما أصلهم؟ والعجيب أنهم يقولون: إن أصل هؤلاء حيوانات أو نبات من الأرض، ثم تطورت شيئاً فشيء إلى أن صارت بهذا الشكل، فإذا كان يتطور فلماذا هذا التطور؟! ولماذا لا يستمر هذا التطور؟! وما الذي يمنعه إذا كان كذلك؟ وكل ما يمكن أن يقولوه فهو باطل بالعقل، ولا يمكن أن يقتنع به عاقل أبداً، ولابد أن ينتهي وجود خلق إلى خالق، فالإنسان لا يمكن أن يستوعب في عقله أنه توجد سيارة بغير صانع أبداً، فسيارة بدون صانع وجدت بهذه الدقة وبهذا النظام وبهذا الشكل هذا لا يمكن، ولا يمكن أن يوجد كتاب مرتب على معانٍ وبكلمات وحروف بغير كاتب أبداً، هذا مستحيل، فالمخلوقات هذه لابد لها من موجد، ولابد لها من خالق، ثم هذه المخلوقات لا يمكن أن يوجدها مخلوق مثلها؛ لأن المخلوق نفسه عاجز عن إيجاد نفسه، فكيف يوجد غيره؟! فلابد أن ينتهي الأمر إلى موجدٍ قادرٍ عليمٍ كامل بنفسه غني بذاته عن كل ما سواه، وهو الله جل وعلا.

ولهذا جاء أن جبير بن مطعم لما سمع قول الله جل وعلا: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} [الطور:٣٥] يقول: أحسست بقلبي كأنه أنخلع، وكأنه شيء مجذوب ثم لم يتمالك أن ذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وأسلم، بسبب تأثره بقوله تعالى: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ} [الطور:٣٥] يعني: هل وجدوا بلا موجود؟ هذا لا يقبله العقل، فإذا كان هذا باطل جاء التقدير الثاني: هل هم خلقوا أنفسهم؟ وهذا أيضاً