للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[جميع الرسل يدعون إلى التوحيد ويحذرون من الشرك]

ومن الطاغوت من جاوز حده في الطاعة فيطيع المخلوق في المعصية، يعرف أنها معصية ويأمره بها، ويطيعه في معصية الله، فهذا المطاع في معصية الله يكون طاغوتاً، ومن أطاع مخلوقاً في معصية الخالق فقد اتخذه طاغوتاً، ويدل على هذا ما جاء في قصة عدي بن حاتم عندما قدم على النبي صلى الله عليه وسلم وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ قول الله جل وعلا: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:٣١]، والآية في اليهود والنصارى، وعدي بن حاتم كان من نصارى العرب، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا رسول الله! إنا لم نعبدهم! فقال: بلى، ألم يحرموا عليكم الحلال فحرمتموه، ويحلوا لكم الحرام فأحللتموه؟ قال: بلى، قال: تلك عبادتهم)، فليست العبادة فقط أن يسجد الإنسان لإنسان، ويحبه محبة الذل والخضوع، يكفي في هذا أن تكون عبادة طاعة، وعبادة الطاعة أن أطاعوهم في معصية الله؛ لأن الذي يترك الواجب ويأمر غيره بتركه هو في الواقع منازع لله جل وعلا محاد لله جل وعلا، وكذلك الذي يفعل المحرم ويدعو غيره إلى فعله ينازع الله جل وعلا في شرعه وفي أمره، ومن هذه الناحية يكون طاغوتاً.

قال الشارح: [وأما معنى الآية فأخبر تعالى أنه بعث في كل طائفة من الناس رسولاً بهذه الكلمة {أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:٣٦]، أي: اعبدوا الله وحده واتركوا عبادة ما سواه.

كما قال تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انفِصَامَ لَهَا} [البقرة:٢٥٦]، وهذا معنى (لا إله إلا الله)، فإنها هي العروة الوثقى، قال العماد ابن كثير في هذه الآية: كلهم -أي: الرسل- يدعو إلى عبادة الله، وينهى عن عبادة ما سواه، فلم يزل سبحانه يرسل إلى الناس الرسل بذلك منذ حدث الشرك في بني آدم في قوم نوح الذين أرسل إليهم، وكان أول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض إلى أن ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي طبقت دعوته الإنس والجن في المشارق والمغارب، وكلهم كما قال الله تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء:٢٥]، وقال تعالى في هذه الآية الكريمة: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:٣٦]، فكيف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ} [النحل:٣٥]؟ فمشيئة الله تعالى الشرعية عنهم منفية؛ لأنه نهاهم عن ذلك على ألسنة رسله، وأما مشيئته الكونية وهى تمكينهم من ذلك قدراً فلا حجة لهم فيها؛ لأنه تعالى خلق النار وأهلها من الشياطين والكفرة، وهو لا يرضى لعباده الكفر، وله في ذلك الحجة البالغة والحكمة القاطعة، ثم إنه تعالى قد أخبر أنه أنكر عليهم بالعقوبة في الدنيا بعد إنذار الرسل، فلهذا قال: {فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ} [النحل:٣٦] انتهى.

].

سبق أن مشيئة الله جل وعلا عامة شاملة ما يخرج عنها شيء، وأن المشيئة إذا جاءت تكون مرادفة للإرادة الكونية؛ لأن الإرادة تنقسم إلى قسمين: إرادة كونية وهي المشيئة، ولا يوجد فرق بين أن نقول: إن الله يفعل ما يريد.

أو أن نقول: إن الله يفعل ما يشاء.

كلها سواء بمعنى واحد، ولكن هناك معنى آخر للإرادة، وهي إرادة دينية، كما قال الله جل وعلا في ذكره للتخفيف والتيسير في الشرع: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا} [النساء:٢٦ - ٢٨]، فالتخفيف ما وقع للناس كلهم، والبيان من الله وقع، والتخفيف كذلك وقع من الله، ولكن كثيراً من الناس ما انتفع به؛ لأنه لم يقبله ولم يرفع به رأساً، فالمقصود أن هذه الإرادة تتعلق بدينه، وتتعلق بكتابه وشرعه، أما الإرادة التي تتعلق بملكه وتصرفه فهي الإرادة الكونية، كقوله جل وعلا: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا} [الإسراء:١٦]، يعني: أمرناهم أمراً قدرياً كونياً ففسقوا فيها فدمرناها تدميراً، فينبغي أن نفرق بين هذه وهذه.

ثم سبق أن الإرادة الكونية -وهي المشيئة- لا تنافي كون الإنسان مريداً لما يفعله ومختاراً لما يفعله؛ لأن الله خلق الإنسان وخلق له قدرة وإرادة، وبهذه القدرة والإرادة والاختيار الذي خلقه له يستطيع أن يفعل الشيء الذي يريد أن يفعله، ويستطيع أن يترك الشيء الذي يريد تركه، ولهذا استحق الثواب على فعل الخير والواجب، واستحق العقاب على ترك الواجب وفعل المحرم.

ثم إن الله جل وعلا زيادة في الرحمة والإحسان إلى العباد بين لهم ما شرعه من العقوبات على المخالفين، وما أكرم به المؤمنين الذين اتبعوا أمره وأطاعوه، وهذا أمر لا ينكره أحد، فكل الخلق يعرفونه؛ ولهذا يقول الله جل وعلا لنبيه: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف:٩] قل: لست أول رسول يأتي إلى الناس، فقد سبقني رسل، فينبغي أن تنظروا وتستدلوا.

وبهذا يقطع الإنسان قطعا لا يتطرق إليه شك أنه رسول مثل الرسل السابقين؛ لأنه جاء بمثل ما جاءوا به، وقد قص الله جل وعلا علينا قصصهم، وقد أخبرنا ربنا جل وعلا أنه أرسل الرسل للأمر بتوحيد الله وطاعته وعبادته، وتنهى عن عبادة غيره، وأولهم نوح، فنوح عليه السلام هو أول رسول أرسل إلى أهل الأرض، كما قال الله جل وعلا: {إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ} [النساء:١٦٣]، أما قبل نوح فكان بنو آدم على الحق، لا يحتاجون إلى رسول، فنبيهم هو أبوهم آدم عليه السلام فهم يتبعونه، وبقوا على هذا -كما جاء في صحيح البخاري عن ابن عباس - عشرة قرون كلها على التوحيد، ثم بعد ذلك طرأ الشرك عليهم، فبعث الله جل وعلا نبيه نوحاً عليه السلام، فبقي فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى توحيد الله، وهذا وقت الدعوة، لبث فيهم يدعوهم هذه المدة الطويلة ويرجو أن الله جل وعلا يبعث من أولادهم من يعبد الله، ولكن في النهاية كأنه يئس فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا} [نوح:٢٦ - ٢٧]، فدعا عليهم بدعوته التي استجاب الله جل وعلا له بها، فأغرقهم الله، ثم صارت ذرية نوح هم الباقين كما قال لنا ربنا جل وعلا، أما الذين معه في السفينة فكلهم فيما يظهر لم يعقب؛ لقوله جل وعلا: {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ} [الصافات:٧٧]، ولهذا يقول المؤرخون: أبونا الثاني هو نوح.

فكل من على وجه الأرض أبوهم نوح، وهو الأب الثاني، أما الأب الأول فهو آدم عليه السلام؛ لأن أولاده هم الذين صارت لهم الذريات التي انتشرت في الأرض، ثم حدث فيهم الشرك مرة أخرى، وقد صار أولادهم منتشرين في الأرض كلها، فكل إقليم أرسل إليه رسول لكل جهة من الجهات، وقد يكون في آن واحد عدد من الرسل، في وقت واحد يرسل كل رسول إلى بلاد، كما هو واضح في قصص الأنبياء، ومن أوضح ذلك ما جاء في قصة إبراهيم عليه السلام مع من أضافهم من الملائكة، فلما قدم لهم الطعام أوجس منهم خيفة، فأخبروه أنهم أرسلوا إلى قوم لوط، وهذا يدلنا على أن لوطاً أرسل إلى جهة أخرى في وقت إبراهيم، فأخذهم الله جل وعلا بالعذاب، وكان إبراهيم يجادل فيهم.

وعلى كل حال فحجة الله قامت على الخلق بإرسال الرسل، والله أخبرنا أنه أرسل رسله تتراً، ومعنى (تتراً): تتتابع.

بعضهم في إثر الآخر، كلما احتاج الناس إلى رسول يرسله الله جل وعلا إليهم، وخاتمهم الذي ختموا به هو محمد صلوات الله عليه وعلى إخوانه المرسلين جميعاً، وعلى أمته تقوم الساعة، ولا يوجد بعده رسول؛ ولهذا أخبرنا جل وعلا أن الساعة اقتربت، كما قال جل وعلا: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} [القمر:١]، ومن أسمائه صلوات الله وسلامه عليه: (نبي الساعة)؛ لأن الساعة تقوم عقبه على أمته، فليس للخلق حجة، وإذا علم الإنسان أن الله أرسل رسولاً وأنزل كتاباً وجب عليه أن يبحث عن ذلك، ويجب عليه وجوباً، ولا يجلس ينتظر ويقول: حتى يأتيني أحد يبين لي، أو يقول: أنا ما جاءني أحد، ما أحد بين لي، يجب عليك أن تبحث أكثر من طلب الطعام والشراب، فلو أن الإنسان جلس في بيته لا يطلب ما يأكل ولا يشرب ومات، فإنه يعد قاتلاً لنفسه، فكيف إذا جلس وترك دين الله؟! هذا أعظم إثماً من كونه يترك الأكل والشرب، فالذي يحبس نفسه عن الأكل والشرب حتى يموت يقال: إنه قاتل لنفسه.

فتارك دين الله أعظم من ذلك، فالله جل وعلا يسأل الناس كلهم، قال تعالى: {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ} [الأعراف:٦]، كلهم يسألون، وقد جاءت نصوص عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الإنسان إذا وضع في قبره يسأل عن ربه وعن نبيه وعن دينه، فيقال: من تعبد؟ وبأي دين تعبد؟ ومن الذي جاء بهذا الذي تتعبد به؟ هل جاءك به أحد أو هو من عند نفسك؟ إن المسألة ليست مسألة اختراع ونظر وقياس ونظر إلى المجتمع وفعل ما يروق له، المسألة تكليف من الله جاءنا من السماء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيجب علينا