[حال الإنسان عند النعم والمصائب وحقيقة كل منهما]
[والقسم الثاني: ما يجري على العبد بغير فعله من النعم والمصائب، كما قال تعالى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:٧٩] والآية قبلها، فالحسنة في هاتين الآيتين النعم، والسيئة المصائب، هذا هو الثاني من القسمين].
الآية التي قبلها هي قوله جل وعلا: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ} [النساء:٧٨]، قال جل وعلا: {قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء:٧٨]، ثم جاءت الآية التي بعدها: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ} [النساء:٧٩]، والحسنة هنا المقصود بها الخير الذي يصاب به الإنسان، إما رزق، وإما عافية في بدنه، وإما ولد، وإما غير ذلك مما هو مفروح به ومسرور به، فكل ما نفع الإنسان فهو حسنة.
أما السيئة هنا في هاتين الآيتين فالمقصود بها المصيبة، مثل مرض، ونصر عدو، وفقد ولد، وذهاب مال، وما أشبه ذلك، فالله جل وعلا أخبر أن كلاً من عنده، يعني: كله مقدر من عند الله، سواء أكان حسنة أم سيئة: (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) تقديراً وخلقاً وإيجاداً.
ثم فصل جل وعلا فقال: (مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) يعني: من فضل فهو بفضله وكرمه وجوده وإحسانه، فعليك أن تشكر ربك وتعرف منته عليك.
وقوله: (وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ) يعني: بسبب نفسك.
فما أصبت إلا بذنبك الذي أذنبت؛ لأن الناس لو أقاموا أمر الله لأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، وَلَمَا أصابهم شيء، ولكن لم يقيموا أمر الله ولم يستطيعوا ذلك، فهم يعصون الله، وهذه حكمة الله، فلابد أن يذنبوا، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (لو لم تذنبوا لذهب الله بكم وجاء بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر الله لهم)؛ لأن الله غفور رحيم.
لو أن الخلق لم يذنبوا فأين معنى (غفور)؟ وأين معنى (رحيم)؟ وأين معنى (بر)، و (رحمن)؟ لابد أن تظهر معاني أسماء الله جل وعلا على خلقه، لابد أن تظهر، لابد أن يذنبوا فيرحمهم ويستر عليهم ويعفو عنهم، لابد، ولكن يجب أن لا يتعمدوا المعاصي، ويجب أن لا يعاندوا، ويجب أن لا يكابروا، ويجب أن ينقادوا لله، ثم إذا وقعوا في الذنب يجب أن يعترفوا بالتقصير ويستغفروا ربهم، فإنه إذا كان هذا شأنهم فإن الله يغفر لهم.
[وأظن شيخ الإسلام رحمه الله ذكره في هذا الموضع، ولعل الناسخ أسقطه والله أعلم.
ثم قال رحمه الله: فإن الإنسان ليس مأموراً أن ينظر إلى القدر عندما يؤمر به من الأفعال، ولكن عندما يجري عليه المصائب التي لا حيلة له في دفعها].
يعني أن الإنسان إذا أمر بأمر من الأمور ما يجوز له أن يقول: إن كان هذا مقدراً علي سأفعله.
لا يجوز هذا، بل يجب أن يقول: سمعاً وطاعة كما يقع لبعض المعاندين أو الجاهلين إذا قيل له: لماذا ما تصلي؟ يقول: ما كتب لي أن أصلي.
وهذا غير صحيح، فما يدريك؟ وهل وأطلعت على الغيب؟ وأطلعت في الكتاب؟ لا.
ولكنك راضٍ عما أنت فيه، وتريد أن تبرر لنفسك فعلك وتجعل اللوم على القدر، فهذا هو الواقع؛ لأنه إذا وقع الإنسان في مصيبة، فهنا نعم ينظر إلى القدر، فيقول: الحمد لله، هذا قدر الله.
ويتسلى بذلك.
أما عند فعل الواجبات وترك المحرمات فإنه يجب أن يمتثل الأوامر ويجتنب النواهي، فإذا وقع في محرم لا يقل: هذا بقدر.
بل يقول: أستغفر الله وأتوب إليه؛ لأن الاستغفار والاعتراف بالتقصير هو الواجب عليه، ولا يقل: هذا مقدر علي لأنه إذا قال ذلك فمعنى ذلك أنه راضٍ بما صار، وأنه يرى أنه على حق، وأن القدر هو الذي يلام، وهذا لا يجوز أن يقع من المسلم.
أما المصائب التي ليست ذنوباً مصائب مثل فقد ولد، وفقد مال، واحتراق وما أشبه ذلك فهنا يقول: هذا تقدير الله أو مثلاً رفعت مصيبة تترتب على فعل ذنب، مثل أن يسرق سارق فتقطع يده، فمثل هذا إذا نظر إلى يده فإنه يقول: الحمد لله هذا تقدير الله.
أما السرقة فلا؛ لأن السرقة هي فعل السارق يجب أن يتوب منها ويستغفر، أما المصيبة فهي ما ترتب على ذلك وهو قطع اليد، فهذه مصيبة.
فالمصيبة يلتفت إلى القدر فيها؛ لأنه لا حيلة له في ذلك، أما السرقة فله حيلة وهي الاستغفار والتوبة، فيستغفر ويتوب ولا يحتج بالقدر على وقوع السرقة؛ لأنها فعله، وهذا هو معنى ما جاء في الحديث الذي في الصحيحين أن موسى عليه السلام قال: (يا رب! أرني آدم فأراه الله جل وعلا آدم، فقال له: أنت آدم أبو البشر؟ قال: نعم.
قال: لماذا خيبتنا ونفسك أخرجتنا من الجنة؟ فقال: أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه؟ قال: نعم.
قال: قبل كم وجدت في التوراة مكتوباً قبل أن أخلق: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} [طه:١٢١]؟ قال: وجدته مكتوباً عليك قبل أن تخلق بأربعين سنة، فقال: أتلومني على شيء كتب علي قبل أن أخلق بأربعين سنة؟ فحج آدم موسى، فحج آدم موسى).
هنا لا يجوز أن يقال: إن موسى عليه السلام لام آدم على الذنب؛ لأن آدم عليه السلام تاب من الذنب، والذنب إذا تيب منه لا يجوز أن يذكر؛ لأنه لم يصر عليه، فهو انتهى، فلا يُعَير إنسان بذنب أصابه، ولكن لامه على الخروج من الجنة، والخروج هو المصيبة التي ترتبت على الذنب، فهو لامه على المصيبة، ولهذا احتج آدم بالقدر على المصيبة، قال: (أتلومني على شيء قد كتب علي؟)، فهذا لا يمكن استدراكه ولا حيلة فيه.
فهكذا -مثلما قلنا- في السارق تماماً: إن الذنب الذي وقع منه إن كان تاب من السرقة فلا يجوز أن نعيره بذلك أو نلومه عليه، ولكن إذا قيل له: لماذا قطعت يدك؟ يقول: هذا قدر الله، والحمد لله.
أما قوله في حديث آدم: (قبل كم وجدت مكتوباً في التوراة قبل أن أخلق؟ فقال: بأربعين سنة)، فهذا لا ينافي الحديث الذي في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص الذي فيه: (إن الله كتب مقادير الأشياء قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وآدم آخر المخلوقات، وقال: بأربعين سنة).
فهذا مكتوب في التوراة، والتوراة الله كتبها بيده جل وعلا، خطها بيده تعالى وتقدس، ثم أنزلها على كليمه، فالله جل وعلا باشر ثلاثة أشياء بيده: غرس جنة عدن بيده تعالى وتقدس، وخلق آدم بيده، وخط التوراة لموسى بيده.
وهذا جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم، أما بقية الأشياء فإنه يقول لها جل وعلا: (كوني) فتكون: {إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس:٨٢]، تعالى وتقدس، ولا يعجزه شيء، وهذا خاص، ولهذا قال الله جل وعلا لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:٧٥]، كأنه جل وعلا يقول: أنا لم أتكبر عن مباشرة الخلق بيدي، وأنت تتكبر من أن تسجد له.
فالمقصود أن الاحتجاج بالقدر على المصيبة التي تصيب الإنسان هو من باب التسلي، يتسلى بذلك ويقول: هذه المصيبة لا حيلة لي فيها قد كتبت علي ولهذا يقول العلماء: الاحتجاج بالقدر على المصائب والآلام لا على المعائب والآثام، والمعائب: هي الذنوب، فما يجوز أن يحتج على الذنب ويقول: هذا الذنب الذي فعلته مقدر علي.
بل يجب عليه أن يتوب ويستغفر.