قوله:[يبتغي بذلك وجه الله] يدل على أن المقصود بابتغاء الوجه أنه يكون مخلصاً لا يصدر منه العمل إلا لله خالصاً ليس فيه شيء لغيره.
كما يدل على أن لله وجهاً جل وتقدس، وهو وجهه الكريم الذي النظر إليه أعلى نعيم في الآخرة، وقد فسر الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك جلياً، كما جاء في صحيح مسلم من حديث صهيب:(أن الرسول صلى الله عليه وسلم ذكر قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}[يونس:٢٦] فقال: الحسنى الجنة، والزيادة: النظر إلى وجه الله جل وعلا)، وجاءت الأحاديث متواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما في حديث جرير بن عبد الله البجلي، وحديث أبي هريرة، وحديث أنس، وحديث أبي سعيد الخدري، وأحاديث كثيرة جداً، وهي ثابتة في الصحيحين وغيرهما أن الصحابة قالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال:(هل تضارُّون في رؤية القمر ليلة البدر ليس دونه سحاب؟ قالوا: لا.
قال: إنكم ترونه كما ترون القمر ليلة البدر)، وجاء هذا في روايات كثيرة متعددة وألفاظ مختلفة، فهذا مما يجب الإيمان به.
والنظر إليه إلى وجهه جل وعلا، وإلا فهو أكبر من كل شيء وأعظم من كل شيء، وقد جاء الدعاء المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم:(وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم)، وهذا دعاء ينبغي للمسلم أن يدعو به، فالنظر إلى وجهه جل وعلا له لذة أعظم من لذة الجنة، وأخبر جل وعلا عن أعدائه أنهم يعذبون بالحجاب عنه، قال تعالى:{كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}[المطففين:١٥]، فالحجاب: ضد الرؤية، فيحجب أعداءه وينظر إلى أوليائه وينظرون إليه، أما نظره هو جل وعلا فهو لا يحول دونه حائل، ولا يمكن أن يستر نظره شيء جل وتقدس، ولكن العباد ينظرون إليه في الجنة فقط، وأما في الدنيا فلا أحد ينظر إليه، كما قال صلوات الله وسلامه عليه في حديث الدجال الذي أخبرنا أنه يأتي ويزعم أنه الله رب العالمين، وهو من أكذب الكاذبين، يقول لنا الرسول صلى الله عليه وسلم:(واعلموا أن أحداً منكم لن يرى ربه حتى يموت) يعني: إلى أن يأتي يوم القيامة.
فإن كان من أهل الجنة رأى ربه، أما قبل ذلك فلا يمكن.
وقد يلتبس على بعض الناس أنه جاء في المسند وفي غيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(رأيت ربي في أحسن صورة)، فهذه الرؤية المقصود بها رؤية النوم، رآه في المنام، ورؤية النوم ليست هي الرؤية الحقيقية، وإنما هي مثل يضربه الملك الموكل بالرؤيا، فالرائي يرى شيئاً يليق بإيمانه واتباعه للرسول صلى الله عليه وسلم وحبه لله وطاعته له، فإن كان إيمانه كاملاً وصحيحاً وحسناً رأى صورة تناسب هذا، وإن كان ناقصاً رأى كذلك؛ لأنها ليست رؤية حقيقية، فعلى هذا يجوز للمؤمن أن يرى ربه في النوم، ولكن يراه على حسب إيمانه، وتكون الرؤية مثلاً يضربه الملك الموكل بالرؤيا، والرؤيا قسمها العلماء إلى أقسام ثلاثة: قسم ليس برؤيا، وإنما هي أضغاث أحلام، بل هي حديث النفس وما تشتغل به، فإذا كان الإنسان منهمكاً في عمل من الأعمال، أو في فعل من الأفعال، سواءٌ أكان خيراً أم شراً فغالباً إذا نام يجد أنه يزاول ذلك العمل، ولو كان حديثاً بينه وبين أصحابه يجد أنه يزاول ذلك العمل ويراه؛ لأن نفسه منهمكة فيه، وأصبحت كأنها لا تتجزأ ولا تنفصل عنه، فهذه ليست رؤيا، ولكن هذا يخاف منه في الواقع، لأن النوم شبيه بحضور الموت، فيخاف أن الإنسان إذا حضره الموت يكون مشغولاً بهذه الأمور، ويموت على ذلك، والمفروض أنه يموت على (لا إله إلا الله) والإيمان بالله واليقين به والإقبال على الله والإقلاع عن كل ذنب.
القسم الثاني: تخويفات تأتي من الشيطان يخوف بها الإنسان، ويمثل له تمثيلاً يخيفه، وهذا الذي قال فيه الرسول صلى الله عليه وسلم:(إذا رأى أحدكم ما يكره فلينفث عن يساره ثلاثاً وليستعذ بالله من الشيطان، ثم ليتحول إلى الجنب الآخر، ولا يحدث بما رأى أحداً، فإن ذلك لا يضره)؛ لأن هذا من تخويف الشيطان، والشيطان يطرده الذكر والاستعاذة بالله جل وعلا، وعمله يبطل بذلك.
القسم الثالث: الرؤيا التي يقول الرسول صلى الله عليه وسلم فيها: (الرؤيا جزء من بضع وأربعين جزءاً من النبوة)، وذلك لأنه يأتي بها الملك الموكل بالرؤيا، والوحي يأتي به الملك إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا شيء جزئي، فهي أمثال يضربها الملك لما سيفعل الإنسان وما سيستقبله، فيمثله له ويقربه له، وقد يكون التقريب والتمثيل ظاهراً جلياً يفهمه الإنسان، وقد يكون فيه خفاء لا يعرفه إلا أهل العلم بذلك، ولهذا لا يجوز أن تقص الرؤيا إلا على عالم ومحب، فلا تقص على جاهل ولا على عدو أو على كاره؛ لأنها قد تأول فتقع على التأويل الذي أولت عليه وهو الشيء المكروه، وقد جاء أن الرؤيا على جناح طائر ما لم تأول، فإذا أولت وقعت، وجاء في التفسير أن الفتيين اللذين أخبرا يوسف في السجن أن أحدهما رأى أنه يعصر خمراً والآخر يحمل خبزاً في النهاية قالا: لم نر شيئاً، وإنما نحن كاذبين فقال:{قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ}[يوسف:٤١]، يعني: وقع كما أخبرتكما.