للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مسألة تسلسل الحوادث والأقوال فيها]

هذه المسألة التي أشار إليها مسألة كبيرة جداً، ووقع فيها ضلال كبير وكثير، وهي معروفة في كتب المتكلمين بمسألة تسلسل الحوادث، والتسلسل مأخوذ من السلسلة، والسلسلة تكون متداخلة كل حلقة داخلة في الأخرى حتى يتصل آخرها بأولها، فلا يكون فيها نقص، والتسلسل مأخوذ من أن كل حادث قبله حادث، وهكذا إلى مالا نهاية.

والتسلسل يكون من الجانبين: من جانب المستقبل وجانب الماضي، فالماضي كل حادث قدر فقبله حادث، وكل مخلوق قدر فقبله مخلوق وهكذا، وأما المستقبل فكل شيء يوجد فسيوجد شيء آخر، وهكذا.

والمتكلمون اختلفوا في هذا على مذاهب: فمنهم من منع التسلسل في الماضي والمستقبل، بل قالوا: إن أهل الجنة وأفعالهم تنتهي، إما أن تكون الحركة تنتهي وإما أن يكون أهل الجنة أنفسهم يفنون، وإن الجنة والنار تفنيان.

وهذا قول بعض المعتزلة قالوه بناءً على هذه القاعدة.

وأما في الماضي فمثل ما ذكر هنا، يقول: كان الله جل وعلا معطلاً في الأزل، فلم يكن يفعل شيئاً، ثم لما أراد أن يخلق السموات والأرض والجبال والمخلوقات صار قادراً على الفعل، أما قبل ذلك فلم يكن قادراً.

والشيخ يقول: هذا من أسوء الظن بالله جل وعلا؛ لأن الله جل وعلا لم يزل كاملاً، ولا يلزم أن نعلم بعقولنا وإدراكاتنا أفعال الله الأزلية القديمة؛ لأن الله لا مبدأ له جل وعلا، وهو بصفاته كامل، وقد أخبر أنه فعال لما يريد، ولم يكن في وقت من الأوقات فعالاً لما يريد وفي بعض الأوقات لا يفعل -تعالى الله وتقدس-؛ لأن هذا نقص، فالله له الكمال المطلق، ولا يلزم أن يكون ذكر مبدأ هذا الكون أنه ليس قبله مخلوقات، فالله على كل شيء قدير، وهو جل وعلا له الكمال المطلق.

وأما ما جاء في حديث عمران بن حصين حينما سأل أهل اليمن وقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم: ما مبدأ هذا الأمر؟ فقال: (كان الله ولم يكن شيئاً قبله، ثم كتب في الذكر كل شيء، ثم خلق السماوات والأرض) إلى آخره فمعنى ذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر على حسب السؤال؛ لأنهم قالوا: ما مبدأ هذا الأمر؟ وهذا لإشارة، والإشارة تكون إلى شيء موجود مثل الأرض والجبال والشجر ومن على الأرض، وكذلك السماء، فأخبر عن أول مبدئه أن الله خلقه في ستة أيام، ولا يلزم أن قبل ذلك لم يكن هناك شيء مخلوق، بل إخباره جل وعلا أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام دليل على أن هناك أشياء قبل وجودها يعرف تقدير الأيام بها؛ لأن الأيام التي تعرف الآن هي بوجود الشمس، فالشمس هي التي يعرف بها الليل والنهار، أما قبل ذلك فلا ندري ما هي الأيام؟ فلابد أن تكون الأيام تلك في تدبير أجرام أخرى الله أعلم بها.

والمقصود: أنه يجب اعتقاد الكمال المطلق لله، وأنه لا يجوز أن يكون ناقصاً في وقت من الأوقات أو معطلاً عن كونه إذا أراد أن يفعل شيئاً فلا يفعله، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.

وتمام الكلام على هذا أن منهم من نفى التسلسل في الماضي والمستقبل، ومنهم من أثبته في المستقبل فقط ونفاه في الماضي، وزعم أن هذا مذهب أهل السنة وليس كذلك، وهذا بناء على دوام الجنة والنار، فأخبر في المستقبل أن الحوادث ستستمر إلى ما لا نهاية، وأما في الماضي فهم يمنعونه، والمذهب الثالث الذي هو مذهب أهل السنة هو أن الحوادث في الماضي لا مبدأ لها، والمراد بذلك جنس الحوادث لا حادثاً معيناً، فإن الله لم يزل يفعل ما يشاء في الماضي وكذلك في المستقبل.