للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[القول الراجح في زيارة النساء للقبور]

سبق أن اللعن من الله جل وعلا: الطرد والإبعاد، فالملعون هو المبعد عن الخير وعن الرحمة، وأن الله جل وعلا يلعن من يشاء كما أنه يرحم من يشاء، ولكن الملعون من حقت عليه اللعنة واستحقها، وسبق أيضاً أنه إذا جاء لعن فاعل فعل من الأفعال فإن هذا الفعل يكون كبيرة من كبائر الذنوب، ولا يلعن فاعل فعل يكون فعله خلاف الأولى، بل لكونه فعل فعلاً هو معصية وكبيرة من الكبائر فعلى هذه القاعدة يقال: إن زائرات القبور من النساء ملعونات، وأن زيارة القبور منهن كبيرة من الكبائر، ولا فرق بين زيارة قبر أو زيارة قبور، وقد اختلف العلماء في هذه المسألة: فمنهم من قال: إنه لا يجوز للنساء زيارة القبور مطلقاً، بل ولا يجوز اتباع الجنائز لهن، أما اتباع الجنائز فجاء في الحديث الصحيح أنه قال: (ارجعن مأزورات غير مأجورات، فإنكن تؤذين الميت، وتفتن الحي) أو نحو ذلك وهذا يدل على أنه لا يجوز، فإذاً: النساء ممنوعات من اتباع الجنائز، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (من صلى على جنازة فله قيراط، ومن صلى عليها واتبعها فله قيراطان) فهنا (من) لفظ عام بالاتفاق، يدخل فيه الرجال والنساء، ولكن جاء دليل خاص أخرج النساء من ذلك، فخرجن من هذا العموم بدليل خاص.

أما الزيارة للنساء فجاء فيه اللعن، ولكن سبب الخلاف أنه جاء ما يدل على الجواز، فقد جاء عن عائشة رضي الله عنها أنها زارت قبر أخيها عبد الرحمن فلما قيل لها: (ألم ينه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور؟ قالت: نعم، نهى ثم رخص، ولو حضرته عند موته ما زرته) فهذا في الواقع ليس فيه حجة ولا دليل فيه؛ لأن ظاهره كما احتجت بأن النهي جاء أولاً ثم جاء بعده الإذن العام، ولم يحتج عليها القائل بأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى النساء خاصة، فكأنها ما بلغها هذا، فلا يكون في ذلك حجة.

أما المرأة التي جاءت قصتها في الصحيح أنه مر صلى الله عليه وسلم بامرأة تبكي عند قبر فقال لها: (اتقي الله، فقالت: إليك عني فإنك لم تصب بما أصبت به، فقيل لها: هذا رسول الله، فندمت وجاءت إلى بيته، فلم تجد عنده بواباً فقالت: يا رسول الله! أصبر، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى) فهذا الحديث صحيح، ولكن ما يعرف تاريخه، وإذا كان الأمر هكذا فلا يؤخذ بالشيء العام باتفاق العلماء بل يقدم الخاص على العام.

ومعلوم أن العلة إذا عرفت فإن الحكم يناط بها، فالنساء قلوبهن أرق من قلوب الرجال، وهن أضعف عقولاً، وصبرهن أقل، فربما يقعن في زيارتهن في الأمور الممنوعة، والنفع الذي يكون فيها هو كونهن يتعظن، وإذا كانت الأمور المحذورة أو الممنوعة أكثر مما يرجى منه النفع فلا يجوز أن يؤذن لهن، ولا يجيز الشارع في مثل هذا، أما مجرد الاستغفار فيمكنهن أن يستغفرن وهن في بيوتهن.

أما ما جاء أن الرسول صلى الله عليه وسلم علم عائشة كيف تقول إذا زارت القبور، فهذا لا يدل على جواز الزيارة، ولكن إذا مرت المرأة في طريقها على القبور فيجوز لها أن تقول هذا الدعاء وهي سائرة في الطريق، وهذا غير ممنوع، فالذي يظهر أنه علمها هذا من أجل أنها إذا مرت على قبور في طريقها وهي سائرة أن تقول هذا الدعاء، فيبقى النهي على بابه، وهذا هو الراجح، فلا يجوز للنساء أن يزرن القبور، بل زيارتهن محرمة، وإذا جاء عن العلماء أنها مكروهة فإن هذه الكراهة تحمل على كراهة التحريم، ولا فرق بين زيارة القبور في المقابر، أو زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم، لا فرق بين هذا وهذا، فإذا منع النساء من زيارة قبور الناس فهن ممنوعات أيضاً من زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم.

قال الشارح: [قال شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: وقد جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم من طريقين: فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لعن زوارات القبور) وذكر حديث ابن عباس ثم قال: ورجال هذا ليس رجال هذا، فلم يأخذه أحدهما عن الآخر، وليس في الإسنادين من يتهم بالكذب، ومثل هذا حجة بلا ريب.

وهذا من أجود الحسن الذي شرطه الترمذي؛ فإنه جعل الحسن إذا تعددت طرقه، ولم يكن فيه متهم، ولم يكن شاذاً أي: مخالفاً لما ثبت بنقل الثقات.

وهذا الحديث تعددت طرقه، وليس فيها متهم، ولا خالفه أحد من الثقات، هذا لو كان عن صاحب واحد، فكيف إذا كان هذا رواه عن صاحب، وذاك عن آخر؟ فهذا كله يبين أن الحديث في الأصل معروف.

والذين رخصوا في الزيارة، اعتمدوا على ما روي عن عائشة رضي الله عنها: (أنها زارت قبر أخيها عبد الرحمن وقالت: لو شهدتك ما زرتك)، وهذا يدل على أن الزيارة ليست مستحبة للنساء كما تستحب للرجال، إذ لو كان كذلك لاستحبت زيارته، سواء شهدته أم لا.

قلت: فعلى هذا لا حجة فيه لمن قال بالرخصة.

وهذا السياق لحديث عائشة رواه الترمذي من رواية عبد الله بن أبي مليكة عنها، وهو يخالف سياق الأثرم له عن عبد الله بن أبي مليكة أيضاً: (أن عائشة رضي الله عنها أقبلت ذات يوم من المقابر، فقلت لها: يا أم المؤمنين! أليس نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن زيارة القبور؟ قالت: نعم، نهى عن زيارة القبور ثم أمر بزيارتها).

فأجاب شيخ الإسلام رحمه الله عن هذا وقال: ولا حجة في حديث عائشة، فإن المحتج عليها احتج بالنهي العام، فدفعت ذلك بأن النهي منسوخ، ولم يذكر لها المحتج النهي الخاص بالنساء الذي فيه لعنهن على الزيارة.

يبين ذلك قولها: (قد أمر بزيارتها) فهذا يبين أنه أمر بها أمراً يقتضي الاستحباب، والاستحباب إنما هو ثابت للرجال خاصة.

ولو كانت تعتقد أن النساء مأمورات بزيارة القبور، لكانت تفعل ذلك كما يفعله الرجال، ولم تقل لأخيها: لما زرتك.

واللعن صريح في التحريم، والخطاب بالإذن في قوله: (فزوروها) لم يتناول النساء، فلم يدخلن في الحكم الناسخ، والعام إذا عرف أنه بعد الخاص لم يكن ناسخاً له عند جمهور العلماء، وهو مذهب الشافعي وأحمد في أشهر الروايتين عنه، وهو المعروف عند أصحابه.

فكيف إذا لم يعلم أن هذا العام بعد الخاص؟ إذ قد يكون قوله: (لعن الله زوارات القبور) بعد إذنه للرجال في الزيارة؛ يدل على ذلك أنه قرنه بالمتخذين عليها المساجد والسرج، ومعلوم أن اتخاذ المساجد والسرج المنهي عنها محكم، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، وكذلك الآخر.

والصحيح: أن النساء لم يدخلن في الإذن في زيارة القبور لعدة أوجه: أحدها: أن قوله صلى الله عليه وسلم: (فزوروها) صيغة تذكير وإنما يتناول النساء أيضاً على سبيل التغليب.

لكن هذا فيه قولان: قيل: إنه يحتاج إلى دليل منفصل، وحينئذ فيحتاج تناول ذلك للنساء إلى دليل منفصل.

وقيل: إنه يحمل على ذلك عند الإطلاق.

وعلى هذا فيكون دخول النساء بطريق العموم الضعيف، والعام لا يعارض الأدلة الخاصة ولا ينسخها عند جمهور العلماء، ولو كان النساء داخلات في هذا الخطاب لاستحب لهن زيارة القبور، وما علمنا أحداً من الأئمة استحب لهن زيارة القبور، ولا كان النساء على عهد النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين يخرجن إلى زيارة القبور.

ومنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم علل الإذن للرجال بأن ذلك (يذكر الموت، ويرقق القلب، وتدمع العين) هكذا في مسند أحمد، ومعلوم أن المرأة إذا فُتح لها هذا الباب أخرجها إلى الجزع والندب والنياحة؛ لما فيها من الضعف وقلة الصبر، وإذا كانت زيارة النساء مظنة وسبباً للأمور المحرمة، فإنه لا يمكن أن يحد المقدار الذي لا يفضي إلى ذلك، ولا التمييز بين نوع ونوع، ومن أصول الشريعة: أن الحكمة إذا كانت خفية أو منتشرة علق الحكم بمظنتها فيحرم هذا الباب؛ سداً للذريعة، كما حرم النظر إلى الزينة الباطنة، وكما حرم الخلوة بالأجنبية وغير ذلك، وليس في ذلك من المصلحة ما يعارض هذه المفسدة، فإنه ليس في ذلك إلا دعاؤها للميت، وذلك ممكن في بيتها.

ومن العلماء من يقول: التشييع كذلك، ويحتج بقوله صلى الله عليه وسلم: (ارجعن مأزورات غير مأجورات، فإنكن تفتن الحي وتؤذين الميت) وقوله صلى الله عليه وسلم لـ فاطمة: (أما إنك لو بلغت معهم الكدى لم تدخلي الجنة) ويؤيده ما ثبت في الصحيحين: (من أنه نهى النساء عن اتباع الجنائز)، ومعلوم أن قوله صلى الله عليه وسلم: (من صلى على جنازة فله قيراط، ومن تبعها حتى تدفن فله قيراطان) هو أدل على العموم من صيغة التذكير، فإن لفظ (من) يتناول الرجال والنساء باتفاق الناس، وقد علم بالأحاديث الصحيحة أن هذا العموم لم يتناول النساء لنهي النبي صلى الله عليه وسلم لهن عن اتباع الجنائز، فإذا لم يدخلن في هذا العموم فكذلك في ذلك بطريق الأولى.

انتهى ملخصاً].