[تعريف المحكم والمتشابه]
وقد اختلف العلماء: ما هو المتشابه؟ وما هو المحكم؟ فمنهم من قال: المتشابه: هو ما ورد ثم نسخ، والمحكم هو: الناسخ الذي نسخ ما سبقه.
ومنهم من قال: المتشابه مثل فواتح السور التي بدأت بالحروف المقطعة (ألم، حم، طس، طه) وما أشبه ذلك، فهذه متشابهة؛ لأن هذه الحروف لا يعرف معناها، والمحكم ما عدا ذلك.
ومنهم من قال: المتشابه: هو ما احتمل معناه حقاً موافقاً للمحكم.
ومنهم من قال: المحكم: هو الأوامر والنواهي الواضحة الجلية من الأحكام كالأمر بالتوحيد والعبادة، وأما المتشابه فهو: الإخبارات بالأمور المغيبة التي لا يدرك كنهها ولا حقيقتها إلا بالمشاهدة، والوقوف عليها، فإذا جاء تأويله يوم القيامة عرفت.
وفي كل هذه الأقوال ليس فيها أن آيات الصفات وأحاديث الصفات من المتشابه، كما يقوله من يقوله من المتأخرين من علماء الأشعرية وغيرهم، فإنهم جعلوا آيات الصفات متشابهه، مثل قوله جل وعلا: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه:٥]، وقوله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح:١٠] وقوله: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:٧٥] وما أشبه ذلك من الآيات الكثيرة، وهذا باطل قطعاً لم يقل أحد من السلف: إنه من المتشابه، وإنما قال به هؤلاء الذين سلكوا غير طريق السلف فضلوا في ذلك.
فالصفات محكمة وظاهرة وواضحة، كما قال الإمام مالك: (الاستواء معلوم، والكيف مجهول) أي أن كيفية الصفة مجهولة؛ لأن الكيفية هي الحالة التي يكون الموصوف عليها، هذه هي الكيفية، وهذه تتطلب المشاهدة، ولا أحد يشاهد الرب جل وعلا، فصارت مجهولة، ولكن المعنى الذي خوطبنا به واضح وجلي وليس فيه أي تشابه.
والصواب أن التشابه في كتاب الله جل وعلا نسبي، ومعنى أنه نسبي أنه قد يكون عند شخص متشابهاً وعند غيره واضحاً جلياً محكماً ظاهراً ليس فيه تشابه، ولهذا اختلف العلماء في الوقف على قوله جل وعلا: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ} [آل عمران:٧]، فمنهم من يقف هنا ويقول: هنا وقف لازم (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ)، ومنهم من لا يقف، ويقرأها: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران:٧] ويقف هنا، يعني أن الراسخين في العلم يعرفون تأويله، وهذا قول ابن عباس رضي الله عنه وغيره من علماء الصحابة وغيرهم أنه ليس في كتاب الله شيء لا يعلم -كما يعتقده من يعتقده- لأنه واضح، وإن كان بعض الناس قد يشتبه عليه، ولكن عند الرجوع إلى المحكمات أو إلى العلماء يزول هذا التشابه، ويصبح ليس فيه متشابه، ويصبح واضحاً محكماً جلياً، وهذا هو القول الصحيح من أقوال العلماء.
وكل ذلك لا يدل على أن الصفات متشابهة، بل هي محكمة ظاهرة جلية وواضحة، ونحن خوطبنا بشيء نفهمه ونعرفه، أما الكيفيات والحقائق فهذه لم تطلب منا، وإنما طلب منا أن نكلها إلى عالمها.
والآية تدل على هذا، وقوله جل وعلا: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران:٧] يعني: هن أصل الكتاب، فإذا رددت الذي فيه تشابه إليها تبين ووضح وزال التشابه، {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آل عمران:٧] تُردُّ إلى هذا الذي هو أم الكتاب فيزول التشابه.
وقوله: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ} [آل عمران:٧] يدل على أن الزيغ الذي في قلوب هؤلاء يدعوهم إلى أن يتركوا المحكم الجلي ويتبعوا الشيء الذي فيه تعلق لهم طلباً للفتنة، يطلبون الفتنة التي هي زيغ القلوب والضلال، أما إذا كان الإنسان خالياً من هذه الصفة ليس في قلبه زيغ ولا يطلب الفتنة فإنه لا يحدث له ذلك، ولا يحدث عنده تشابه، فإذاً التشابه عند قوم معينين يطلبون الفتنة، والزيغ موجود في قلوبهم، وهو الذي يدعوهم إلى ذلك، والفتنة هي أن يوافق الأمر الذي يريدونه ما في قلوبهم مخالفاً للحق الذي أريد، فيكون هذا أيضاً زيادة فتنة لهم، نسأل الله العافية، والواقع شاهد بهذا، فكل مبتلى يمكن أن يتعلق بشيء من القرآن ولو من بعيد، حتى إن الدجالين الكذابين الذي كذبهم ظاهر جلي مثل البهائية والبابية والأحمدية وغيرهم ممن كذبهم لا يخفى على العقلاء فضلاً عن الذين عندهم علم، حاولوا أن يتعلقوا بشيء من القرآن ويزعموا أنه يدل على باطلهم، مع أن القرآن فيه قول الله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:٤٠]، وهم زعموا أنهم أنبياء، فكيف القرآن يدل على زعمهم؟ هذا من أمحل المحال، ولكن المقصود أن كل ضال يمكنه أن يتعلق بشيء ولو من بعيد، ويلبس على الجهال، ويزعم أن القرآن يدل على مقصوده وقوله.
ومن العجائب التي تكون مضحكة في الواقع أن الرسول صلى الله عليه وسلم نص نصوصاً بلغت حد التواتر أنه خاتم النبيين وأنه لا نبي بعده، فقال: (لا نبي بعدي)، وعلى أمته تقوم الساعة، ثم يأتي كذاب دجال أشر ويقول: أنا اسمي (لا) حتى يلبس على الناس ويقول: أنا الذي قال في الرسول صلى الله عليه وسلم: (لا نبي بعدي) يحرف الكلام الذي يكون نصاً على إبطال دعواه ليدل على دعواه، ولهذا النصارى منهم من زعم أن القرآن يدل على التثليث، وهذا أيضاً من هذا الجنس من العجائب، فقالوا: إنا نجد في القرآن (إنا) و (نحن) ضمائر الجمع، وهذا يدل على أن المعبودين جماعة.
وهذه أدلة للمبطلين الذين باطلهم ظاهر لكل أحد، يتعلقون بشيء من النصوص بالتدليس والكذب والتغطية-تغطية الباطل الواضح-حتى يمكن أن ينطلي على الجهال، فكيف بالذي أعطي منطقاً وأوتي علماً وأعطي كذلك فصاحة وبياناً؟ إنه يستطيع أن يدلس، ويستطيع أن يلبس فيضل، ولهذا جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أخوف ما أخاف على أمتي منافق عليم اللسان يجادل في كتاب الله)، فإن هذا يكون فتنة لكل مفتون، نسأل الله العافية، يفتن الناس بهذا السبب.
والخلاصة أن العبد عليه إذا ورد شيء من النصوص في كتاب الله أو في حديث رسوله صلى الله عليه وسلم وصح ذلك أنه يقبله ويقول: آمنت بما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت بما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو لم يفهم، ثم معرفة معناه إذا أمكن، وإذا لم يمكن يكفيه ذلك، وأن يعرف أنه حق وإن لم يدرك معناه ويكتفى بهذا، ويكفيه ذلك في النجاة، فإذا عرف معناه وأرجعه إلى الواضح الجلي فهذا هو المطلوب، وهذا الذي يكون به زوال الشك إذا قُدِّر أنه يرد على القلب.
أما إذا لم يستطع ذلك فليسلم ولينقد وليؤمن بالله وبما جاء عن الله تعالى، ويؤمن برسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما قال الإمام الشافعي رحمه الله: آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله جل وعلا، وآمنت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم على مراد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يعني أنه يسلم وينقاد، وهذا هو الواجب.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: وروى عبد الرزاق.
هو ابن همام الصنعاني المحدث، محدث اليمن، صاحب التصانيف، أكثر الرواية عن معمر بن راشد صاحب الزهري، وهو شيخ عبد الرزاق يروي عنه كثيراً، ومعمر -بفتح الميمين وسكون العين- أبو عروة بن أبي عمرو راشد الأزدي الحراني ثم اليماني، أحد الأعلام من أصحاب محمد بن شهاب الزهري يروي عنه كثيراً].
معمر بن راشد ليس من اليمن، وإنما هو من أهل البصرة، وتعلم في البصرة وأخذ العلم عن البصرة، وكان عالماً كبيراً وحافظاً مشكوراً، فذهب إلى اليمن على عادة العلماء في الرحلة، ولكنه لما أتى إلى اليمن أعجب أهل اليمن بكثرة روايته وغزارة علمه، ولم يكن ذا أهل باليمن ولا بغيرها، فأراد أن يرجع من اليمن، فاجتمعوا وتشاوروا كيف يصنعون، فقال أحدهم: قيدوه.
قالوا: كيف نقيده؟ قال: زوجوه فزوجوه وقيدوه بالزوجة، فصار من أعظم من نشر العلم هناك، وهو شيخ عبد الرزاق، وعبد الرزاق شيخ الإمام أحمد وغيره من الأئمة الكبار الذين أخذوا عنه.
قال الشارح رحمه الله تعالى: [قوله: عن ابن طاوس هو عبد الله بن طاوس اليماني، قال معمر: كان من أعلم الناس بالعربية، وقال ابن عيينة: مات سنة اثنتين وثلاثين ومائة.
قوله: عن أبيه هو طاوس بن كيسان الجندي -بفتح الجيم والنون- الإمام العلم، قيل: اسمه ذكوان.
قاله ابن الجوزي.
قلت: وهو من أئمة التفسير ومن أوعية العلم، قال في تهذيب الكمال: عن الوليد الموقري عن الزهري قال: قدمت على عبد الملك بن مروان فقال: من أين قدمت يا زهري؟ قال: قلت: من مكة.
قال: ومن خلفت يسودها وأهلها؟ قلت: عطاء بن أبي رباح.
قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قلت: من الموالي.
قال: فبم سادهم؟ قال: قلت: بالديانة والرواية.
قال: إن أهل الديانة والرواية لينبغي أن يسودوا.
قال: فمن يسود أهل اليمن؟ قلت: طاوس بن كيسان.
قال: فمن العرب أم من الموالي؟ قال: قلت: من الموالي.
قال: فبم سادهم؟ قلت: بما ساد به عطاء.
قال: إنه لينبغي ذلك.
قال: فمن ي