للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[مباشرة الأسباب، وحكمها مع التوكل]

قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقوله: (ولا يتطيرون) أي: لا يتشاءمون بالطيور ونحوها.

وسيأتي إن شاء الله تعالى بيان الطيرة وما يتعلق بها في بابها.

وقوله: (وعلى ربهم يتوكلون) ذكر الأصل الجامع الذي تفرعت عنه هذه الأفعال والخصال، وهو التوكل على الله وصدق الالتجاء إليه والاعتماد بالقلب عليه الذي هو نهاية تحقيق التوحيد الذي يكمل كل مقام شريف من المحبة والرجاء والخوف والرضا به رباً وإلهاً والرضاء بقضائه.

واعلم أن الحديث لا يدل على أنهم لا يباشرون الأسباب أصلاً؛ فإن مباشرة الأسباب -في الجملة- أمر فطري ضروري لا انفكاك لأحد عنه، بل نفس التوكل مباشرة لأعظم الأسباب، كما قال تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:٣] أي: كافيه.

وإنما المراد أنهم يتركون الأمور المكروهة مع حاجاتهم إليها توكلاً على الله تعالى، كالاكتواء والاسترقاء، فتركهم له لكونه سبباً مكروهاً، لا سيما والمريض يتشبث -فيما يظنه سبباً لشفائه- بخيط العنكبوت.

وأما مباشرة الأسباب والتداوي على وجه لا كراهة فيه فغير قادح في التوكل، فلا يكون تركه مشروعاً؛ لما في الصحيحين عن أبي هريرة مرفوعاً: (ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاءً علمه من علمه وجهله من جهله).

وعن أسامة بن شريك قال: كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وجاءت الأعراب، فقالوا: يا رسول الله! أنتداوى؟ قال: (نعم -يا عباد الله- تداووا؛ فإن الله لم يضع داءً إلا وضع له شفاءً، غير داءٍ واحد.

قالوا: وما هو؟ قال: الهرم) رواه أحمد.

قال ابن القيم رحمه الله تعالى: وقد تضمنت هذه الأحاديث إثبات الأسباب والمسببات، وإبطال قول من أنكرها، والأمر بالتداوي، وأنه لا ينافي التوكل كما لا ينافيه دفع ألم الجوع والعطش والحر والبرد بأضدادها، بل لا تتم حقيقة التوحيد إلا بمباشرة الأسباب التي نصبها الله تعالى مقتضية لمسبباتها قدراً وشرعاً، وأن تعطيلها يقدح في نفس التوكل كما يقدح في الأمر والحكمة، ويضعفه من حيث يظن معطلها أن تركها أقوى في التوكل؛ فإن تركها عجز ينافي التوكل الذي حقيقته اعتماد القلب على الله تعالى في حصول ما ينفع العبد في دينه ودنياه ودفع ما يضره في دينه ودنياه، ولا بد مع هذا الاعتماد من مباشرة الأسباب، وإلا كان معطلاً للحكمة والشرع، فلا يجعل العبد عجزه توكلاً ولا توكله عجزاً.

وقد اختلف العلماء في التداوي: هل هو مباح وتركه أفضل، أو مستحب، أو واجب، فالمشهور عن أحمد الأول؛ لهذا الحديث وما في معناه، والمشهور عند الشافعية الثاني، حتى ذكر النووي في شرح مسلم أنه مذهبهم ومذهب جمهور السلف وعامة الخلف واختاره الوزير أبو المظفر، قال: ومذهب أبي حنيفة أنه مؤكد، حتى يداني به الوجوب.

قال: ومذهب مالك أنه يستوي فعله وتركه؛ فإنه قال: لا بأس بالتداوي ولا بأس بتركه.

وقال شيخ الإسلام: ليس بواجب عند جمهور الأئمة، وإنما أوجبه طائفة قليلة من أصحاب الشافعي وأحمد].

عند الذين يقولون: إن التداوي واجب لو أن الإنسان ترك التداوي لكان آثماً؛ لأنه ترك ما يجب عليه، أما الذين يقولون إنه مستحب فإنه إذا تداوى أثيب على ذلك، وإن لم يتداو لم يثب على هذا، فيثاب على الدواء، ولكن إذا كان عنده التوكل فالثواب يكون على التوكل من باب آخر، وأما عند الأولين كما ذكر أنه مذهب أحمد فتركه عندهم يكون أفضل، فإذا تركه يكون مأجوراً؛ لأنه ترك مكروهاً، والمكروه يثاب على تركه تديناً لله جل وعلا، كما أن المستحب يثاب على فعله ابتغاء وجه الله، أما ما ذكره عن مذهب الإمام مالك فكلاهما سواء، فلا ثواب ولا عقاب، تداويت أم لم تتداو.

قال الشارح رحمه الله تعالى: [وقوله: (فقام عكاشة بن محصن) هو بضم العين وتشديد الكاف، -ومحصن- بكسر الميم وسكون الحاء وفتح الصاد المهملتين ابن حرثان -بضم المهملة وسكون الراء بعدها مثلثة- الأسدي، من بني أسد بن خزيمة، كان من السابقين إلى الإسلام ومن أشجع الرجال، هاجر وشهد بدراً وقاتل فيها، واستشهد في قتال الردة مع خالد بن الوليد بيد طليحة الأسدي سنة اثنتي عشرة، ثم أسلم طليحة بعد ذلك، وجاهد الفرس يوم القادسية مع سعد بن أبي وقاص، واستشهد في وقعة الجسر المشهورة] طليحة الأسدي هو من أسد بن خزيمة الذين عكاشة منهم، وهذه القبيلة الآن لا يوجد منها أحد، نزحت في وقت فتوح الشام والعراق إلى تلك البلاد، فتفرقت، فلا يعلم منها أحد اليوم، واستشهد طليحة في وقعة الجسر، وقيل: وقعة الحيرة.

وكلتاهما قريبتان.