شرك المشركين ليس خاصاً في نفس الأسماء والصفات
شرك المشركين ليس في نفي الصفات والأسماء، بل كانوا يقرون بأن الله هو الخالق الرازق المدبر المالك لكل شيء الذي يحيي ويميت، وكانوا يؤمنون بهذا، وهذا من الأسماء والصفات، وإن كان يُسمى توحيد الربوبية؛ لأنه مرتبط به تماماً، وإنما أنكروا هذا الاسم إما عناداً وتكبراً، وإما لأنهم ما كانوا يعرفونه، ولكن غيرهم من العرب كانوا يعرفونه كما جاء في أشعارهم وفي خطاباتهم وكلامهم، مما يدل على أنهم يقرون بهذا الاسم.
وأما المنكرين له وكفرهم به بقولهم: لا نعرف الرحمن، فسمى الله جل وعلا هذا كفراً فقال: {وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ} [الرعد:٣٠] فعلى هذا إذا أنكر إنسان المعنى الذي أخذ منه الاسم وهو الصفة يدخل في هذا.
فمثلاً: أنكر أن تكون لله رحمة يتصف بها، أو أنكر أن تكون لله عزة أو أن تكون لله حكمة أو ما أشبه ذلك، فإنه يكون داخلاً في هذا.
ثم إذا ورد في القرآن شيء من ذلك أو في حديث الرسول صلى الله عليه وسلم صار يؤوله تأويلاً غريباً على اللغة وغريباً على الوحي الذي نزل ليعمل به، فيقول -مثلاً-: الرحمة رقة تكون في القلب تعتري الراحم يحدث منها الميل إلى المرحوم، وهذه الرقة فيها ضعف، ولا يجوز أن نصف الله بذلك، هكذا يعلل، أما الحكمة فهي العمل لغرض من الأغراض، والله لا يجوز أن يعمل لغرض؛ لأنه تعالى غني عن ذلك، وهذه من صفات الأجسام، فمن وصفه بالرحمة أو الحكمة أو ما أشبه ذلك فإنه يكون مشبهاً.
فيكون هذا الإنكار بُني على أصل فاسد خبيث، وهو أنه لا يعرف أن من هذه الأسماء أو من هذه الصفات إلا ما يعرف من المخلوق، فصار أساس ذلك التشبيه؛ لأنهم شبهوا أولاً ثم كفروا ثانياً بالتعطيل والنفي، ثم شبهوا ثالثاً في كونهم ألحقوه بالناقصات، تعالى الله وتقدس.
وهذا بلاء أصاب الأمة على أيدي أناس مدسوسين فيها مشبوهين لا يعرف أصلهم، بل يجوز أنهم من اليهود أو من المجوس أو من النصارى أو من الماسونية الخبيثة التي تريد أن تفسد الأديان أو من غيرهم، وهذا هو الواقع، فيكونون يجتهدون ويدرسون هذه الأفكار ثم ينظرون إنساناً جريئاً ويأمرونه بإخراجها، ثم تنسب هذه الأفكار إلى هذا الرجل، والواقع أن خلفه مؤسسات وجمعيات، وليس هذا من ابتكار هذا الرجل، فإذا قيل -مثلاً-: (جهمية) فالجهمية ينكرون الأسماء والصفات، ويُنسبون إلى جهم بن صفوان رجل من أهل ترمذ، وهل هذه أفكاره فقط أو أنه ظهر بها من جمعيات ومؤسسات تريد بذلك إفساد الإسلام؟! وكذلك أيضاً الذين تبنوا غير ذلك من الأفكار مثل الرافضة ومثل الخوارج ومثل المعتزلة والقدرية وغيرهم، ولا ينكر أن يكون هناك رجل له دور كبير في هذا الشيء المعروف، والذي يتتبع الحوادث وكتب التاريخ يجد من ذلك شيئاً واضحاً، فمثلاً: إنكار القدر، المشهور في الكتب أن أول من تكلم في القدر رجل يقال له: معبد الجهني من جهينة من العرب، ولكن تقرأ -مثلاً- في تاريخ ابن جرير فنجده يقول: أول من تكلم بإنكار القدر رجل يقال له: سيسويه رجل مجوسي من الأسوار ونقرأ في كتاب آخر ونجد أنه يقول: أول من تكلم بالقدر رجل يقال له كذا نصراني من النصارى.
وقد عُرف أن أول من قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم له وصي، وإنه ما مات نبي إلا وله وصي هو عبد الله بن سبأ، وهذا رجل يهودي جاء من صنعاء، يقال له: عبد الله بن وهب بن سبأ فجاء وألب الجهال والطغام حتى قاموا على أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه فقتلوه -كما هو معروف-، وكل هذا بإغرائه وإغوائه، وقد صار إلى جهات متعددة، من أجل ذلك ذهب إلى العراق، وذهب إلى الشام، وذهب إلى مصر، ولم يعدم أنصاراً من هذه البلدان، فكون له أنصاراً، ثم كان مثل الشيطان يوقعهم في البلاء، ثم كان يفر ويذهب ولا يعرف إلى أين كان يذهب، وإذا ذهب إلى مكان أفسد فيه.
والغريب أنه لما قام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه للخلافة قام أيضاً بتأليب الطغام والجهلة اتباع كل ناعق، وصار يقول لهم: إن علياً هو الإله، أو أن الله حل فيه، أو إن فيه جزءاً من الإلهية، فهو إلهنا، فكون جماعة من هؤلاء، فبعضهم ذهب وقابل علي بن أبي طالب، فلما خرج من بيته قاصداً المسجد قالوا له: أنت هو، قال: ومن أنا؟ قالوا: أنت إلهنا، قال: ويلكم! هذا الكفر، إن لم ترجعوا عن ذلك قتلتكم.
وفي اليوم الثاني قابلوه كذلك وقالوا له ذلك، وفي اليوم الثالث كذلك، ثم لما أوقعهم في هذه الواقعة فر وذهب إلى بلاد أخرى، وأمير المؤمنين رضي الله عنه غضب لله جل وعلا حماية للتوحيد ولعبادة الله، فأمسكهم وحفر حفراً وأوقد فيها النيران ثم قذفهم فيها غضباً لله جل وعلا، ومع ذلك ما رجعوا، بل تحملوا أن تأكلهم النار وهم أحياء ليبقوا على هذا الكفر، وهذا بإغراء هذا الرجل الخبيث وغيره، ويجوز أن يكون معه آخرون ممن هم من المفسدين.
وابن حزم رحمه الله يقول في (الفصل) لما جاء إلى ذكر هذه الطائفة قال: هذا أمر معروف سببه، وهو أن العرب كانت عند الفرس وعند الروم -خصوصاً الفرس- من أحقر الأمم وأضعف الأمم، فكانوا يحقرونهم مع ما عندهم من تعظيم أنفسهم، فكانوا يرون أن الناس عبيد كلهم وهم الأحرار السادة.
وذكر على هذا شواهد من التاريخ، يقول: فلما ابتلوا على أيدي هذه الأمة الضعيفة التي كانوا يعتقدون ضعفها وحقارتها ابتلوا بإزالة ملكهم على أيديهم، وكثير منهم ما استساغ أنه يقبل هذا الدين، بل حنق حنقاً عظيماً، وأصبح يجتهد طاقته في مواجهة هذا الدين، ولكنهم عجزوا عن المواجهة بالقوة، ولم تبق إلا الحيل، فأسسوا المؤسسات التي يريدون بها إفساد العقائد.
كل هذا هو السبب في إنكار أسماء الله وصفاته؛ لأنهم عرفوا أن المسلمين ما داموا متمسكين بالوحي وبما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فلن يقوم أمامهم قوة؛ لأن الله جل وعلا معهم، عرفوا هذا وتيقنوه وقالوا: ليس أمامنا إلا إفساد العقيدة، والطريقة أن يدخل جماعات من هؤلاء الإسلام في الظاهر وهم في الباطن ليسوا مسلمين بل أعداء للمسلمين حتى يتمكنوا من إفساد العقائد، ومعروف أن الداعية إذا جاء يدعو إلى مبدأ لا يُعدم من مجيب، ثم قد تكون الدعوة بأمور تظهر على حسب ما عند الداعية من قوة البيان والقدرة على الإغواء والضلال ولبس الحق بالباطل، كما هو معلوم، وهي سنة الله جل وعلا.
ثم هذه الأمور لابد من وجودها؛ لأن العداوة لابد منها، فالله جل وعلا لما أمر آدم عليه السلام بأن يهبط هو وزوجته من الجنة لما أكلا من الشجرة قال في إهباطهم: {بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} [البقرة:٣٦] أي: الذرية التي تخرج من آدم وزوجه يكون بعضها لبعض عدواً، وهذا إلى يوم القيامة؛ لأن الحق ما كلٌ يقبله، والذي يقبل الحق لابد أن يعادي صاحب الباطل، وكثير من الناس لا يعجبه أن يعبد الله، ولا أن يقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولذا فهو يسعى ويبذل جهده وأمواله في إفساد ذلك.
فبدأ الإفساد بأصل عقيدة المسلمين في الله، فصاروا يبدءون بإخفاء أشياء قد تخفي على بعض العوام ولا تخفى على العلماء، ولهذا لما قيل لأحد العلماء: إن قوماً ينكرون أن الله يتكلم فقال: من اليهود؟ قيل: لا.
قال: من النصارى؟ قيل: لا، قال: من المجوس؟ قيل: لا، بل من المسلمين قال: كلا، المسلمون لا ينكرون أن الله يتكلم؛ لأن الله يرسل الرسل، وينزل الكتب، ويأمر وينهى، وهذا المسلمون لا ينكرونه، ولكن هؤلاء مدسوسون في المسلمين، فكان العلماء يعرفون هذا ولا يخفى عليهم.
فالمؤلف هنا عندما أردا أن يبين أن الأيمان بالأسماء والصفات أمر لازم للمسلم حتى يكون مؤمناً، وأن إنكار شيء من ذلك كفر بالله جل وعلا ذكر هذه الآية بعد ما ذكر الترجمة وإن كانت مجملة.
وقوله: [باب: من جحد شيئاً من الأسماء والصفات] يعني أن فعله يكون كفراً، وإن لم يحكم على إنسان بعينه بأنه كافر إذا فعل ذلك، ولكن هذا الفعل كفر، أما إذا وقع إنسان في شيء من ذلك فأنكر -مثلاً- أن يكون الله موصوفاً بالرحمة أو موصوفاً بالعلو أو موصوفاً بأنه ينزل إلى السماء الدنيا أو ما أشبه ذلك فقد يكون عنده شبه، فيجب أن تزال الشبه عنه، فإذا أزيلت الشبه عنه وأصر على الإنكار فله حكم آخر، غير أننا نقول: إن فعلك أو قولك هذا كفر، فإذا تبين له الحق وأقر به يكون كافراً، نسأل الله العافية.
فمراده هو هذا، أنه يجب أن يجمع المؤمن بين أقسام التوحيد: توحيد العبادة، وتوحيد الأسماء والصفات، وتوحيد الربوبية؛ لأن ربنا جل وعلا تعرف إلينا بأسمائه وصفاته، وأسماؤه وصفاته تبع لذاته، ولا يدل على أنه إذا أخبرنا أنه رحمان وأنه رحيم وأنه عزيز وأنه حكيم وأنه عليم وغير ذلك أن يكون المخلوق الذي يشارك في هذه والصفات وهذه الأسماء مشابهاً له، تعالى الله وتقدس.
بل أسماء الله وصفاته تليق به، وتابعة لذاته، وأسماء المخلوق وصفات المخلوق تليق به، فإذا أضيف الاسم إلى الله أصبح المخلوق لا يشارك الله فيه، وكذالك إذا أضيفت الصفة إلى الرب جل وعلا مثل الرحمة وغيرها فالمخلوق لا يشارك الرب جل وعلا في صفته، وكذالك إذا أضيفت إلى المخلوق فقيل: فلان ذو رحمة، وفلان يرحم، وفلان رحيم، فإن هذا خاص بهذا المخلوق، والله لا يشاركه في هذه الرحمة؛ لأن المخلوق رحمته تناسبه وتليق به، وتناسب ضعفه وتليق بضعفه، ولا يمكن أن يكون الرب جل وعلا مشاركاً له، فيجب أن يُفرق بين هذا وهذا، ولا يكون مثلما يقول هؤلاء: إذا وصفنا الله جل وعلا بأنه له رحمة أو له يد، أو أن له حكمة أو ما أشبه ذلك يلزمنا أن نكون مشبهين؛ لأن المخلوق له رحمة وله يد، ويقولون: إذا قلنا: إنه سبحانه يكون فوق ويكون المخلوق تحته فإن المخلوق يوصف بهذا، فلا يجوز أن نصف الرب جل وعلا بأنه فوق عرشه، أو أنه ينزل إلى السماء الدنيا؛ لأن من كان فوق شيء يكون محتاجاً إلى ذلك الشيء، مثل الذي يكون راكباً على الطائرة أو على السطح أو على السفينة، فإنها إذا سقطت سقط، ولو سقط المركوب لسقط الراكب، وعلى هذا يكون محتاجا