للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[دهرية الجاهلية وجاهلية اليوم]

قال الشارح: [فأما الحديث الذي أخرجه صاحبا الصحيح وأبو داود والنسائي من رواية سفيان بن عيينة عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقول الله تعالى: يؤذيني ابن آدم يسب الدهر وأنا الدهر، بيدي الأمر، أقلب الليل والنهار) وفي رواية: (لا تسبوا الدهر فإني أنا الدهر)، وفي رواية: (لا يقل ابن آدم: يا خيبة الدهر! فإني أنا الدهر، أرسل الليل والنهار، فإذا شئت قبضتهما).

قال في (شرح السنة): حديث متفق على صحته، أخرجاه من طريق معمر من أوجه عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: (ومعناه أن العرب كان من شأنها ذم الدهر وسبه عند النوازل؛ لأنهم كانوا ينسبون إليه ما يصيبهم من المصائب والمكاره، فيقولون: أصابتهم قوارع الدهر، وأبادهم الدهر، فإذا أضافوا إلى الدهر ما نالهم من الشدائد سبوا فاعلها، فكان مرجع سبها إلى الله عز وجل، إذ هو الفاعل في الحقيقة للأمور التي يصفونها، فنهوا عن سب الدهر.

انتهى باختصار].

وهذه العادة السيئة لا تزال موجودة عند الناس، وإن تغيرت الأساليب، وقد تضاف الأمور والحوادث إلى شيء شبيه بالدهر كقولهم مثلاً: الكوارث الطبيعية، فإذا وقع زلزال أو أمطار وفيضانات أو رياح سموها كلها كوارث طبيعية نسبة للطبيعة، وهذا كقولهم: أهلكنا الدهر؛ لأن كل ما يقع في الأرض من تدبير الله جل وعلا، لا يقع على الناس حوادث من فيضانات أو رياح أو زلازل أو براكين إلا بسبب ذنوبهم، يعقبهم الله جل وعلا بها، فيجب أن يعترفوا أن هذا بتقدير الله وتدبيره.

أما الطبيعة فهي لا تصنع شيئاً؛ لأن الطبيعة التي يركن إليها أكثر الناس لا يعرف ما هي حقيقتها، فإن كان يقصد بها شيئاً موجوداً من الرطوبة واليبوسة أو الرياح أو غيرها فهذه مقدرة ومسخرة، لها رب يدبرها أو يسخرها ويقهرها وهي لا تصنع شيئاً، فهذا إنكار منهم واتباع للدهرية الذين يقولون: ما يهلكنا إلا الدهر، وهو من الذنوب التي يجب أن يبتعد عنها الإنسان؛ لأن كل شيء يصيب الإنسان فهو من الله جل وعلا عقاب، والسبب في ذلك ذنوبه؛ لأن الإنسان لا يصاب إلا بما كسبت يده كما أخبرنا الله جل وعلا في قوله: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} [الشورى:٣٠]، يخبرنا جل وعلا أنه لو يؤاخذ الناس بما عملوا ما ترك على ظهر الأرض من دابة، أي أنه يهلكهم، ولكنه يحلم عنهم ولا يعجل عليهم، ويمهلهم، بل يكفرون به وهو يرزقهم ويعافيهم في أبدانهم، وينعم عليهم النعم التي لا عدد لها بحلمه جل وعلا، وكونه لا يعجل عليهم.

ولهذا جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما أحد أصبر على أذىً سمعه من الله؛ يجعلون له الولد ثم يرزقهم ويعافيهم) كذلك يشركون به ويرزقهم ويعافيهم، وكذلك يحاربون دينه، ويحاربون عباده ويرمونهم بالعظائم، بل ويقتلونهم، وهو يرزقهم ويعافيهم؛ لأن مآلهم إليه، فسوف يجازيهم عن قرب، فالجزاء ليس ببعيد، بل هو قريبٌ جداً؛ لأن حياة الإنسان قصيرة جداً.