[شرح حديث عبادة: (من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحديث)]
قوله صلى الله عليه وسلم: (من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه، والجنة حق، والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل).
الشهادة لابد أن يطابق القلب فيها اللسان، أي: أن تكون عن علم ويقين، وعن معرفة وصدق ومحبة لها وامتثال لما تقتضيه وتدل عليه وليس الشهادة مجرد التلفظ، بل شهادة ألا إله إلا الله معناها نفي الشرك عن جميع العبادات وجعل العبادة خالصة لله جل وعلا، ولهذا لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم للكفار: (قولوا: لا إله إلا الله) قالوا -كما حكى الله عنهم-: {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا} [ص:٥]؛ لأنهم علموا أن هذه الكلمة تبطل الشرك كله وتجعل العبادة لإله واحد وهو الله جل وعلا، فمعنى قوله: (أشهد ألا إله إلا الله) أعلم علماً يقينياً بأن التأله والتعبد لله وحده، وأن هذا لا يقع مني ولا أفعله.
بل يكون تعبده وتألهه خالصاً لله وحده.
وقوله: (لا شريك له) هذا تأكيداً للنفي، في قوله: (أشهد ألا إله)، فهذا نفي، وقوله: (إلا الله) إثبات، وقوله: (لا شريك له) ينهي التأله لغير الله ويثبته لله جل وعلا، والشهادة تطلق على العلم اليقيني، وهو الذي تدل عليه هذه الكلمة، ولهذا يقول الله جل وعلا: {إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [الزخرف:٨٦]، يعني: الذين تنالهم الشفاعة.
أما من لم يكن كذلك فإنه لا تقع له شفاعة.
وقوله: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) هذه الجملة جملة حالية تدل على أن العلم في الشهادة شرط فيها، فاشترط فيها أن يكون الشاهد عالماً بما يشهد به، أما إذا شهد بشيء لا يعلمه فهذا يكون من شهادة الزور، وتكون الشهادة مجرد تلفظ باللسان، وتكون كذباً.
ومما يلزم لشهادة ألا إله إلا الله الإخلاص، وهو مقتضى وضع هذه الكلمة، أن تكون العبادة خالصة لله جل وعلا، ولهذا لما سئل صلى الله عليه وسلم -كما في حديث أبي هريرة - وقيل له: (أي الناس أسعد بشفاعتك -يا رسول الله! - يوم القيامة؟ قال: من قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه)، فمن قال هذه الكلمة مخلصاً فهو أسعد الناس بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم، أما الذي لا يخلص فإنه لا يدخل في الشفاعة؛ لأن عدم الإخلاص هو الوقوع في الشرك، والمشرك ليس له نصيب مما أعده الله جل وعلا لأهل التوحيد والإخلاص.
ومنها الصدق، فعلى الإنسان أن يكون صادقاً في قولها، وضد الصدق النفاق، كأن يقولها الإنسان وهو منافق، يقولها في الظاهر ويعمل كذلك بمقتضاها في الظاهر، ولكن قلبه منطوٍ على التكذيب، ومن كان هذه صفته فهو في الدرك الأسفل من النار تحت الكفار، نسأل الله العافية.
فالنفاق هو تكذيب القلب مع عمل الجوارح بخلاف ما في القلب، وكذلك نطق اللسان.
وقد أخبر الله جل وعلا أن المنافقين يشهدون أن محمداً رسول الله، ولكن شهادتهم غير معتبرة، قال سبحانه: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون:١]، فهم في شهادتهم كاذبون؛ لأن قلوبهم لا تتفق مع ما تنطق به ألسنتهم، بل تخالفها.
وكذلك من شروط الشهادة المحبة، وتكون المحبة بأن يحبها ويحب ما تدل عليه، ويغتبط بذلك ولا يكره شيئاً من ذلك، وإلا وقع في المتناقضات.
وكذلك مما يلزم لها الانقياد والإذعان، بأن ينقاد لها ويذعن، ولا يكون عنده تضجر ولا توقف فيما دلت عليه، بل يلتزم ويعمل.
وكذلك مما تقتضيه: القبول والتسليم، بأن يقبل ويسلم وينقاد، وفضلاً عن الانقياد أن يسلم لذلك، والتسليم معناه: ألا يكون في قلبه حرج أو ضيق أو تبرم مما جاءت به هذه الكلمة.
كما قال الله جل وعلا: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:٦٥]، أما إذا تخلف شيء من ذلك فمعنى هذا أنه لم يحصل له المنفعة فيما يقول وما يتشهد به.
فإذاً: هذا كله يدلنا على أن هذه الكلمة أمرها ليس سهلاً، وقد علم الكفار ذلك، فالرسول صلى الله عليه وسلم لما أتى إلى عمه أبي طالب وهو في سياق الموت قال له: (يا عم! قل: (لا إله إلا الله) كلمة أحاج لك بها عند الله)، فقال له الحاضرون من الكفار: أترغب عن ملة عبد المطلب؟ وهذا يدلنا على أنهم فهموا أن قولها يخرجه من ملة الكفر ويدخله في ملة الإسلام، وليس المراد من ذلك مجرد اللفظ فقط، بل المقصود به الخروج نهائياً من هذا الدين والدخول في دين آخر، وإلا فلو كان المقصود مجرد اللفظ ما توقف أحد من الكفار بأن يقولوها وهو مقيم على ما هو عليه من الشرك، لكن هذا لا يقبل ولا ينفع.
ومن المتناقضات ما يقع اليوم من كثير من المسلمين، فتجد أحدهم يقول هذه الكلمة وهو يطوف على القبر ويستنجد بصاحبه ويدعوه دعاء المضطر ويسأله لأمور دنياه وأمور آخرته مما هو صريح الشرك وواضحه، وهو يقول: لا إله إلا الله.
وهذا لأنه جهل معنى (الإله)، وجهل معنى العبادة، وجهل معنى هذه الكلمة وما وضعت له، جهل ذلك كله، وهذا في الواقع تفريط، وإلا فكل عبد من عباد الله يلزمه أن يكون عالماً بهذا المذكور كله.