للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معرفة كفار قريش أن كلمة التوحيد تبطل الكفر]

قوله: إن قولهم: (أترغب عن ملة عبد المطلب؟!) يدل على أنهم يفهمون أن قول: (لا إله إلَّا الله) يبطل ملة الكفر، وينقل الإنسان من ملة الكفر والشرك إلى ملة الإخلاص والتوحيد التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنهم عرب يفهمون الكلام الذي رُكِّب من النفي والإثبات، فقوله: (لا إله): هذا نفي لأن يكون هناك إله، وقوله: (إلَّا الله): إثبات للمنفي أن يكون لله وحده فقط، فمعنى ذلك أنه لا يجوز التألُّه والتعبُّد والتعلُّق على غير الله جلَّ وعلا، بل هذا يجب أن يُحصر في الله وحده، وهذا هو حقيقة الإسلام وحقيقة الدين الذي جاءت به الرسل كلها، فكل الرسل يدعون إلى هذا، ويقولون لقومهم أول ما يقولون: (لا إله إلَّا الله)؛ ولهذا ذكر الله جلَّ وعلا في كتابه أن نوحاً عليه السلام قال لقومه: {مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:٥٩] فقوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ} هو معنى: (إلَّا الله)، وقوله: {اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} [الأعراف:٥٩] هو معنى: (لا إله).

وهكذا قال هود وقال صالح وقال شعيب، وكل الرسل الذين ذكرهم الله جلَّ وعلا بدءوا دعوتهم إلى قومهم بـ (لا إله إلَّا الله).

ويقول الله جلَّ وعلا: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولَاً أَنِ اْعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:٣٦] فهذا أيضاً معنى (لا إله إلَّا الله)، فقوله: {اْعْبُدُوا اللَّهَ} هو معنى: (إلَّا الله)، وقوله: {وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} هو معنى: (لا إله).

وكذلك قوله جلَّ وعلا: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} [البقرة:٢٥٦] فقوله: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ} [البقرة:٢٥٦] هو معنى: (لا إله)، وقوله: {وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ} هو معنى: (إلَّا الله).

وقال جلَّ وعلا: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاه} [الإسراء:٢٣].

فهذه الكلمة التي قالها الرسول صلى الله عليه وسلم لعمه هي التي كان يقولها للناس من أول ما أرسل إليهم، وهي التي جاءت بها الرسل إلى أممهم من أولهم إلى آخرهم، وهي التي يقول الله جلَّ وعلا فيها: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} [آل عمران:١٩] في جميع الأزمنة ولجميع الخلق، هذا هو الدين، ولهذا يقول جلَّ وعلا: {وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [البينة:٥]، وما دخل الضرر والنقص على المسلمين إلَّا لأنهم جهلوا معنى هذه الكلمة الذي دلت عليه، فوقعوا في المتناقضات، فهم يقولون: (لا إله إلَّا الله) ولكنهم يأتون بما ينقاضها تماماً؛ لأنهم: أولاً: جهلوا اللغة العربية؛ فلغتهم التي يتخاطبون بها، جهلوا معانيها.

ثانياً: جهلوا معنى العبادة، ومعنى (الإله)، فظنوا أن العبادة مجرد السجود أو مجرد كون الإنسان يعتقد أن العبادة لا تكون إلَّا لمن يخلق ويرزق ويتصرف في الكونيات الظاهرة تصرفاً لا يشاركه غيره فيه، فوقعوا في عبادة غير الله جلَّ وعلا، وتركوا مفهوم هذه الكلمة، والسبب هو: أنهم لم يهتموا لذلك؛ لأن الأمور التي يهتمون لها لابد أن يدركوا معانيها، ويدركوا من المقصود بها، لكنهم لا يدركون إلا ما يهتمون به، أما هذا فالاهتمام به قليل، ومع ذلك فإن الأمر واضح وجلي، والقرآن كله من أوله إلى آخره يدل على هذا دلالةً واضحة؛ لأن الله أقام الحجة عليهم، فكل من أعرض عن ذلك وقصر فيه فاللوم عليه؛ لأن الحجة قائمة، فهو الملوم؛ ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم جاء بالهدى ووضح وبين.

قال الشارح رحمه الله تعالى: [فإن دلالة هذه الكلمة على نفي ذلك دلالة تضمُّن، ودلالتها عليه وعلى الإخلاص دلالة مطابقة].

دلالة هذه الكلمة على نفي الشرك: دلالة تضمُّن؛ لأن في ضمنها أنه لا يُعبد إلَّا الله (لا إله)، ودلالتها على نفي الشرك وعلى الإخلاص دلالة مطابقة، والمطابقة هي: دلالة الكلام على جميع المعنى، والتضمُّن: دلالة الكلام على بعضه أو على مفهومه، ومعلوم أن الإخلاص ضد الشرك.

والشيء يظهر حسنه الضد وبضدها تتبين الأشياءُ وهي واضحة وجلية في الإخلاص، ولهذا قال: (إنها مطابقة)، وكذلك واضحة وجلية في كونه لا يجتمع إخلاص وشرك، فلهذا قال: (ودلالتها عليه وعلى الإخلاص دلالة مطابقة)، فالأول: مفرد، والثاني: مجموع، وهذا ولو لم يفهمه الإنسان ولم يعرف دلالة المطابقة أو دلالة التضمُّن ما يضره.

والمقصود: أنه يفهم ما وُضعت له وما دلت عليه، ولا يلزم أن يميز بين المطابقة والالتزام والتضمُّن، فهذه أمور اصطلاحية، وهي من اصطلاح المناطقة، كون الدلالات تكون ثلاث: التزام.

وتضمُّن.

ومطابقة.

ولكن الذي يفهم اللغة العربية يفهم معنى الدلالة، وكونه لا يفرق بين دلالة التزام أو تضمُّن أو مطابقة لا يضره.