للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

تفسير قوله تعالى: (وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ)

قال الشارح: [قوله: باب الشفاعة أي: بيان ما أثبته القرآن منها وما نفى وحقيقة ما دل القرآن على إثباته.

قال المصنف رحمه الله تعالى: وقول الله عزَّ وجلَّ: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} [الأنعام:٥١]].

يقول الله جلَّ وعلا: (وَأَنذِرْ بِهِ) يعني: بالقرآن، فالضمير يعود على القرآن، والإنذار هو الإعلام عن أمرٍ مَخُوْفٍ يُتوَقَّع وصولُه إلى الإنسان، {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا} [الأنعام:٥١] فهؤلاء هم الذين ينتفعون بالنذارة، الذين يخافون ربهم ويعلمون أنهم يُحشرون إلى الله، والحشر هو: الجمع بعد التفرق، والمقصود بـ (الحشر): أنهم يُخرجَون من قبورهم بعد موتهم فيُجمعون في صعيد واحد يقومون فيه لرب العالمين، {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين:٦]، وهو يوم القيامة، وهذا اليوم هو الذي أخبر الله جلَّ وعلا أنه يوم عبوس قمطرير، وشره مستطير، وأنه يوم ثقيل على الخلق، فالله جلَّ وعلا يأمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن ينذر أهل الخوف والإيمان والقرآن هذا اليوم فقال: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ} [الأنعام:٥١] أي: يخافون أن يُجمعوا للحساب والمجازاة ثم إسكانهم دورهم الأبدية، وليس هناك إلَّا الجنة أو النار فقط، فبعد هذا الموقف ينصرفون إلى مساكنهم، فريق ينصرف إلى جهنم وفريق ينصرف إلى الجنة.

{وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ} [الأنعام:٥١] هذا في الذين يخافون ربهم، ليس لهم من دون الله ولي ولا شفيع، هؤلاء مؤمنون فكيف المشركون والكافرون؟ والولي المقصود به من يتولى الشخص، ويقوم بشئونه أو يحميه من المخوف أو يدفع عنه بعض الضرر، فيوم القيامة ليس هناك أحد من هذا النوع، لا يوجد ولي يتولى شئونك، ولا يوجد من يدافع عنك، ولا من يجلب لك منفعة أو يدفع عنك مضرة وإن قلَّت، كل واحد يأتي إلى ربه في ذلك الموقف فرداً كيوم ولدته أمه، لا لباس ولا شراب ولا طعام ولا نعال، ولا شيء كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (تُحشرون حفاةً عراةً غُرلاً، فقيل: وما غُرلاً؟ قال: غير مختونين) وفي رواية: (بُهماً، فقيل: وما بُهماً؟ قال: ليس معهم شيء) وعائشة رضي الله عنها قالت للرسول صلى الله عليه وسلم: واسوأتاه! يحشر الرجال والنساء بعضهم ينظر إلى بعض؟! -ليس هناك لباس أصلاً- فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة! الأمر أعظم من ذلكِ) يعني: ما أحد يهمه النظر، ولا أحد ينظر إلى أحد، كل واحد شاخصٌ بصره، تكاد تبلغ القلوب الحناجر من الخوف، ولا يدري من بجواره.

فالمقصود: أن الله جلَّ وعلا خوف المؤمنين هذا اليوم، وليس لأحد منهم من دون الله ولي ولا شفيع، وإذا كان المؤمن ليس له شفيع من دون الله، فكيف بالكافرين؟! وليس معنى هذا أن الشفاعة منفية، ولكن الشفاعة تكون بعد إذن الله، وحقيقة الأمر أن الشفاعة لله، وليست ملكاً لأحد، لا للرسول صلى الله عليه وسلم ولا لغيره، وإنما الله جلَّ وعلا إذا أراد أن يرحم عبده أذن للشافع أن يشفع إكراماً له، ورحمةً لذلك المشفوع، هذه هي حقيقة الشفاعة، فحقيقتها أن الله جلَّ وعلا إذا أراد رحمة المشفوع أذن للشافع أن يشفع إظهاراً لكرامته فقط، وإلَّا فالأمر كله بيد الله.

فمعنى هذه الآية: أن الشفاعة لا يملكها أحد، وإنما هي بيد الله جلَّ وعلا، فالمؤمنون الأتقياء لا يملكون الشفاعة دون الله لا لهم ولا لغيرهم، وليس لهم من دون الله ولي ولا شفيع.

وقوله: (لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) يعني: يستشعرون هذا في قلوبهم، ويعلمونه ويوقنون به، فيكون باعثاً لهم على تقوى الله، والتقوى حقيقتها: فعل المأمور واجتناب المحظور، هذا حقيقة التقوى، وقد قال الله جلَّ وعلا: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [آل عمران:١٠٢] قال ابن مسعود: أن يُطاع فلا يُعصَى، وأن يُشكَر فلا يُكفَر.

يُطاع بلا معصية، وأن يُشكَر على نعمه ولا يُكفَر؛ ولكن جاءت الآية الأخرى تبين المعنى أيضاً وهي قوله جلَّ وعلا: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن:١٦] فهذه الآية تبين أن التقوى المطلوبة هي حسب الاستطاعة، والله لا يكلف نفساً إلَّا وسعها، لا يكلف الإنسانَ شيئاً لا يستطيعه فلله الحمد والمنة، تعالى وتقدس.

فالمقصود: أن هذه الآية تبين أن المؤمنين الأتقياء الخائفين ينتفعون بالنذارة بالقرآن، وأنه ليس لهم من دون الله ولي ولا شفيع، فكيف بمن يطلب الشفاعة من الأموات أو من الأحياء أو من الشجر أو من غيرها؟! كيف تكون له شفيعاً؟! ليس لهم في طلبهم هذا إلَّا الإبعاد، فطلبهم هذا يبعدهم عن الله جلَّ وعلا، ويكون سبباً لتعذيبهم؛ لأنه شرك.

وكونه في هذه الآية وجه النذارة بالقرآن إلى من يخشى الله دليل على أن النذارة الحقيقية هي التي يُنتفع بها، وإلَّا فالرسول صلى الله عليه وسلم منذر للجميع، لكل أحد، لكل الثقلين من الجن والإنس المؤمنين والكفار؛ ولكن هذه نذارة خاصة، فهي أخص من النذارة العامة، فهو نذير للعالمين، والعالَمون هم العقلاء من الجن والإنس، فهو نذير لهم، يعني: أنه ينذرهم عذاب الله جلَّ وعلا إن لم يؤمنوا.