[الشرك منازعة في الخصائص الإلهية]
قال الشارح رحمه الله تعالى: [ومن خصائص الإلهية الكمال المطلق من جميع الوجوه، الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه] أما كون الشرك كبيراً وعظيماً فمن عدة وجوه، منها أنه تشبيه للمخلوق بالخالق، حيث جعل المخلوق إلهاً يعبده، ويجعل له شيئاً من العمل، وهذا وقع في بني آدم كثيراً أكثر من عكسه الذي هو تشبيه الخالق بالمخلوق، فهذا قليل، وأما الكثير فتشبيه المخلوق بالخالق، وهذا من أعظم المحرمات، وذلك أنهم جعلوا بعض المخلوقات بمنزلة الرب جل وعلا فسموها آلهة، أو سموها معبودة، أو سموها قابلة للعبادة وقابلة للنذر، ولو لم يسموها فإنهم يضعون لها العمل، كالذي يقصد القبر ويقول: إنه قبر ولي.
ويطلب منه نفعاً أو دفعاً، سواءٌ من أمور الدنيا أو من أمور الآخرة، فهذا في الواقع جعله بمنزلة الله جل وعلا؛ لأن هذا النفع أمر غيبي لا يملكه هذا المقبور، والمقبور لا يستطيع أن يملك شيئاً، ولا يستطيع أن يسمع دعاء الإنسان، ولو سمع ما استجاب وما استطاع أن يستجيب، فدعوته ضلال، والداعي الذي يدعو مشرك، كما قال الله جل وعلا: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ} [الأحقاف:٥ - ٦]، وهذا ينطبق تماماً على الذي يدعو المقبور الذي يزعم أنه ولي، فإن هذا لا يدري عن دعوته شيئاً؛ لأنه مشغول إما بالعذاب يعذب وإما بنعيم ينعم، وغافل عن دعوته تمام الغفلة، ولا شعور له بدعائه، وإنما يشعر بدعائه إذا حشر هو وداعيه يوم القيامة، وإذا بعث من قبره وجمع مع داعيه يوم القيامة وقيل له: إن هذا كان يدعوك فهل أنت أمرته؟ عند ذلك يتبرأ منه ويبغضه ويلعنه ويكفر به، كما قال الله جل وعلا في الآية الأخرى: {ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا} [العنكبوت:٢٥]؛ لأن كل عابد مع معبوده هذه منزلته يوم القيامة، حتى الملائكة والرسل، فإن الله يحضرهم ويقول لهم: {أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ} [سبأ:٤٠] يعني: من الجن والإنس.
فيتبرأون ويقولون: يا ربنا! (أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن) أي: الشياطين (أكثرهم بهم مؤمنون)، فالشياطين التي أمرتهم بها فصاروا عابدين لها، وفي حديث أبي سعيد الخدري وكذلك حديث أبي هريرة الطويل الذي ذكر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم الشفاعة وذكر فيه محاسبة الله جل وعلا لعباده، وهو حديث متفق عليه في الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم أخبر أنه في أثناء الحديث يأتي الله جل وعلا لمحاسبة لعباده فيقول: (أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟)، فيسأل الخلق جميعاً وهم يسمعون كلامه، فيقول: (أليس عدلاً مني أن أولي كل واحد منكم ما كان يتولاه في الدنيا؟).
والجواب أنهم كلهم يقولون: بلى يا رب.
فيؤتى بكل معبود ويقال لعابده: هذا معبودك اتبعه.
أما الذين يعبدون الأنبياء والملائكة فيؤتى بشياطين على ما يتصور العابدون، فيقال لهم: اتبعوا معبوداتكم فيتبعونها، وهذا قبل أن يقضى بين الناس، وهذا أول القضاء، ويتبعونها إلى جهنم، فتلقى في جهنم ويتبعونها فيها، كما قال الله جل وعلا: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:٩٨]، فهذا قبل كل شيء.
فإذا كان الإنسان يعبد غير الله فهو مشبه ذلك المعبود بالله جل وعلا، وصارف حق الله الذي أوجبه على عباده إلى ذلك المخلوق الذي لا يجديه شيئاً، بل يضره، بل يلعنه ويتبرأ منه إذا حصحص الحق وجيء بالناس للمحاصة والمقاصة والمحاسبة، فكل واحد يتبرأ من الثاني، ولكن لا تفيد البراءة واللعن في ذلك المقام والندامة، انتهى الأمر، وحقت الحاقة.
وكذلك من جهة أخرى كونه تعطيلاً لخلق الله، وذلك أن الله خلق السماوات والأرض، وخلق الجن والإنس ليعبد هو وحده، وإن كان جل وعلا وكل هذا إليهم؛ لأنهم عقلاء وضعت فيهم العقول والأفكار، وجعل الأمر إليهم حتى يفعلوا ذلك عن اختيار فيستحقوا الثواب إذا فعلوه، أو يتركوه عن اختيارهم فيستحقوا العقاب، وليس لهم عذر عند الله، وإلا فالله قادر على أن يجعل الناس كلهم عابدين له، وإنما هذا حتى يبرز ظاهراً للناس كلهم، فمن يستحق الكرامة يكرم، ومن يستحق الإهانة يهان؛ لأنه عند الامتحان يكرم المرء أو يهان، ولا بد من الامتحان، وهذه الدار دار امتحان بالعمل، والعمل يجب أن يكون خالصاً لله جل وعلا، فإذا جاء الإنسان للعمل على الوجه المطلوب على وفق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم جاء به للناس فقد نجح، فيكرم لنجاحه، أما إذا تقاعس عنه أو أعرض عنه ولم يهتم به، أو علم وخالف فهو يستحق الاهانة، وهو خاسر خسارة لا تشبهها خسارة؛ لأن خسارته في جهنم -نسأل الله العافية-، فلهذا يقول الله جل وعلا: {لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ} [التين:٥]، فرد في أسفل سافلين، وإن كان في الواقع يدخل السفل في الخلق في الدنيا، ولكن يظهر في الآخرة بكونه في جهنم؛ لأن جهنم أسفل سافلين، فيرد إليها بعدما كان مخلوقاً في أحسن تقويم له العقل وله الصورة الجميلة وله الفكر، ويتميز عن سائر المخلوقات بهذه الأمور، ولكن ما نفعته إذا ترك أمر الله، فيرد إلى أسفل سافلين، وتصبح الحيوانات أفضل منه، فأخبر الله جل وعلا عن كثير من الناس وكثير من الجن أنه ذرأهم لجهنم، وأن لهم عقولاً لم ينتفعوا بها، ولهم أسماع لم ينتفعوا بها، وأبصار لم ينتفعوا بها، وأن الأنعام أفضل منهم، وأنهم أضل من الأنعام، والأنعام أفضل منهم، فهذا جزاء الذي لا يقبل نعمة الله جل وعلا، لا يقبلها ولا يضعها في مواضعها، فيرد إلى أسفل سافلين، وكل أصل هذا أن يتجه بالعبادة لغير الله جل وعلا، وليست العبادة مقصورة على السجود والركوع والدعاء والتسبيح والتهليل والتكبير وما أشبه ذلك، فالعبادة أعظمها عبادة القلب، حبه وإرادته، وخوفه وذله، وخشوعه وخشيته، فإذا كان القلب متعلقاً بمخلوق من المخلوقات فإنه غالباً يغلب عليه ذلك المخلوق، حتى إنه ربما كان يلعب اللعب الذي يلعبه من كرة أو غيرها ويصبح قلبه عابداً لتلك اللعبة، فيموت عابداً لغير الله جل وعلا، حيث صرف عمله وصرف عمره في هذا الشيء تاركاً وناسياً ما خلق له، وقد تكون عبادته لشهواته لبطنه أو لفرجه أو لوظيفته، وربما تعلق الإنسان بالشيء الذي فرض أن يخدمه وأن يكون خادماً له، مثل المال، فالمال المفترض فيه أن يكون خادماً للإنسان، لا أن يكون الإنسان خادماً له، فالمفترض أن يكون ماله خادماً له لا أن يكون خادماً لماله، وكثير من الخلق يعبد المال، وتكون عبادة المال هي الغالب عليه، كما جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميلة، تعس عبد الخميصة)، فيسجدون للدنانير والدراهم، ويسجدون للأكسية والفرش؛ لأن الخميلة كساء، والخميصة كذلك فراش يوطأ بالأقدام، فكيف بالعاقل يكون عبداً لما يدوسه بقدميه؟ ويكون عبداً لها إذا كان قلبه متعلقاً بها وآثرها على طاعة الله، فليست العبودية السجود أو الركوع أو الدعاء، أو كونه يعتقد أن غير الله يؤثر في الكون وفي جلب المنافع ودفع المضار، فالعبادة في الواقع عبادة القلب، وقد يكون الإنسان عبداً لزوجته، وقد يكون عبداً لرئيسه، فإذا أصبح يطيع الزوجة في معاصي الله، وأصبح يترك طاعة الله من أجلها أصبح عابداً لها، فكل من عصى الله في طاعة مخلوق فقد عبد ذلك المخلوق، كما قال الله جل وعلا: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ} [التوبة:٣١]، ولما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية عند عدي بن حاتم -وكان نصرانياً- قال عدي بن حاتم: يا رسول الله! ما عبدناهم! قال: (بلى.
ألم يحرموا عليكم الحلال ويحلوا لكم الحرام فاتبعتموهم؟ قال: بلى.
قال: تلك عبادتهم) يعني بعبادتهم طاعتهم في معاصي الله، فهذا معناه، وليست عبادتهم السجود لهم والتضرع لهم.
فهكذا يجب على العبد أن يتفقد نفسه، وأن يخلص نفسه من عبادة المظاهر وعبادة الأغراض والأشخاص، وأن يكون عبداً لله حقاً، وتكون عبوديته لله لربه جل وعلا حتى يكون ممن أتى الله جل وعلا بقلب سليم، فهذا هو الذي يكون خالصاً يوم القيامة وسالماً من جميع المخاوف والعذاب.
وأجمع العلماء على أن من مات مشركاً فهو خالد في النار، كما أجمعوا على أن الذي يحكم له بأنه من أهل القبلة من اعتقد الإسلام في قلبه من غير شك أو تردد، ونطق بالشهادتين، وعمل الفروض التي فرضت عليه إذا كان متمكناً، مثل الصلاة والزكاة والصوم والحج، فهذا هو الذي يكون من أهل القبلة، وإذا مات على هذه يكون مسلماً، ويحكم له بأنه من أهل الجنة في الجملة، أما إذا كان مقصراً وعاملاً للذنوب فإن كانت هذه الذنوب غير شرك أكبر فيخاف عليه أن يعذب في النار، ولكن يحكم بأنه مآله في النهاية إلى الجنة ولو بقي في النار أحقاباً، وقد يطول البقاء لبعض الناس في النار، فقد علمنا مما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم أن أهون أهل النار رجل -وهو أبو طالب - يوضع في أخمصه جمرات من جهنم يغلي منها دماغه من شدة حرها، وهو يطؤها بقدمه، ولا يستطيع أن يحيد عنها أبداً، فهذا هو أهون أهل النار عذاباً، فكيف بالذي يكون في دركات جهنم؟ وكيف بالذي يكون في أسفلها في الدرك الأسفل منها؟ لأنها دركات بعضها فوق بعض، أليس هذا يستطيع أن يطأ جمرة من جهنم يغلي منها دماغه؟ فهو يرى أنه أشد الناس عذاباً وهو أهونهم، وسبب هذا الشرك والكفر بالله جل وعلا.
ومما جعل الشرك عظيماً كونه عطل أمر الله واستهان به