للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كلمة التوحيد تنقل قائلها من ملة الكفر إلى ملة الإسلام]

قولهم: (أترغب عن ملة عبد المطلب؟!) يدلنا على أنه لو قالها لانتقل من ملة إلى ملة أخرى، من ملة الكفر والشرك إلى ملة الإسلام، وإلَّا فـ عبد المطلب نفسه يؤمن بأن الله هو الرب المتفرد، فإنه لما أخذ أبرهة الحبشي إبله، فذهب إليه؛ نظر إليه أبرهة فأعجبه وأعظمه فقال لترجمانه: قل له: يسأل ويطلب ما يشاء، فقال: أطلب إبلي، فقال لترجمانه: قل له: إنك سقطت من عيني بعدما كنتَ في عيني كبيراً؛ جئتُ لأجل هدم بيت هو شرفك وشرف آبائك، وتسألني: أين الإبل؟! لماذا لم تسأل عن البيت لئلا أتعرض له ولئلا أهدمه؟ فقال له عبد المطلب: أنا رب الإبل، وأما البيت فله رب سيحميه، ويقصد بالرب: الله جلَّ وعلا، وقد وقع أن حماه الله حمايةً لا يحميها البشر.

فالمقصود: أنه كان يؤمن بالله، ويؤمن بأنه الرب القادر على كبت الكافرين الذين يريدون هدم البيت، ومع ذلك ما نفعه هذا؛ لأنه مات مشركاً.

وفي هذا أيضاً دليل واضح بأن أبا طالب مات على الشرك، كما هو صريح في هذا الحديث، وأما قول الحافظ رحمه الله في (فتح الباري): إن قول الراوي: (فمات على ذلك)، يظهر أنه استند إلى هذه الكلمة.

والصواب: أنه استند إلى الواقعة وإلى ما حدث وما حصل؛ ولهذا نزل قول الله جلَّ وعلا: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [القصص:٥٦] فالأمر واضح في هذا.

وأما ما ذكره السهيلي أن في بعض الكتب للمسعودي أن أبا طالب قال: (لا إله إلَّا الله)، فهذا لا يجوز أن يُلتفت إليه مع ما ثبت في الأحاديث التي في الصحيحين، وما جاء الإشارة إليه في كتاب الله، والمسعودي معروف حاله، فهو رجل من الرافضة، والرافضة مذهبهم أن أبا طالب ناجٍ، وعبد المطلب ناجٍ.

وهذه الآية التي نزلت فيه: {إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [القصص:٥٦] واضحةٌ.

وأما قوله: وأنزل الله جلَّ وعلا: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُوْلِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ * وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [التوبة:١١٣ - ١١٤] فالاستدلال بهذه الآية ليس واضحاً؛ لأن هذه الآية من آخر ما نزل، هذه الآية في سورة (التوبة)، وسورة (التوبة) نزلت في رجوعه صلى الله عليه وسلم من غزوة تبوك في آخر الأمر، ويجوز أن تكون نزلت قبل هذا؛ ولكن هناك أحاديث صحيحة تعترض على هذا، مثل: كون الرسول صلى الله عليه وسلم يستغفر للمنافقين، وقد صلى على عبد الله بن أبي، وأعطى ابنه ثوبه يكفنه فيه، واستغفر له حتى أمسك عمر ثوبه وقال: (يا رسول الله! أتصلي عليه وقد قال: كذا وكذا وكذا وكذا؟ فقال له: دعني؛ إن الله قال: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة:٨٠] فوالله! لو أعلم أني إذا زدتُ على السبعين غُفِر لهم لزدتُ، ثم أنزل الله جلَّ وعلا عليه: {وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدَاً وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ} [التوبة:٨٤]).

فهذا يدل على أنه كان يستغفر للمنافقين ويصلي على بعضهم.

وكذلك جاء في الصحيح أنه صلوات الله وسلامه عليه لما اعتمر عمرة القضاء مَرَّ بقبر أمه فزاره وبكى وقال: (إني استأذنت ربي في الاستغفار لها فأبى، فاستأذنت في زيارة قبرها فأذن لي، فزوروا القبور ولا تقولوا هجراً) فلو كانت الآية هذه قد نزلت قبل تلك الحادثة، لما قال الرسول صلى الله عليه وسلم هذا القول: (فاستأذنت ربي في الاستغفار لأمي) لأنه قد نُهي، وعلى هذا فالصواب: أن النهي عن الاستغفار كان متأخراً، يعني: أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعدما مات أبو طالب كان يستغفر له، فسمع المؤمنون ذلك فقالوا: نستغفر لآبائنا كما أن النبي صلى الله عليه وسلم يستغفر لـ أبي طالب، فنزلت الآية بعد وقت، ولا مانع أن يقال: إن أسباب النزول تعددت، فيكون هذا سبباً وهذا سبباً، وقد جاء أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه سمع رجلاً يستغفر لأبويه وهما قد ماتا مشركَين، فأخبر النبيَّ صلى الله عليه وسلم بذلك فنزل قول الله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ} [التوبة:١١٣] إلى آخره، ويكون هذا القول ثالثاً إذا صحَّ، والله أعلم.