هذا الحديث، هو قول الرسول صلى الله عليه وسلم عن الله تبارك وتعالى وهو حديث قدسي كما سبق، والحديث القدسي: هو ما أضيف إلى الله جل وعلا قولاً ومعنى، فالرسول صلى الله عليه وسلم يرويه عن ربه تبارك وتعالى، بخلاف الحديث الذي يضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فإنه صلوات الله وسلامه عليه يعبر عن المعنى الذي أوحي إليه بالعبارة التي تناسب من قوله صلوات الله وسلامه عليه.
أما المعنى في الحديث فهو كله من الله؛ لأن الله جل وعلا يقول:{وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}[النجم:٣ - ٤] يعني: أن كل ما تكلم به الرسول صلى الله عليه وسلم في أمر الدين أو من الإخبار عما سيكون في المستقبل أو عن الماضي، وكل ما يتعلق بأمر الله وخبره؛ فهو وحي من الله جل وعلا.
قوله جل وعلا:(أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه)، معلوم عند الخلق كلهم أن الله جل وعلا غني بذاته عن كل ما سواه، فالخلق كلهم لا ينفعونه بطاعتهم، ولا يضرونه بمعصيتهم:{مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا}[فصلت:٤٦]، بل العباد هم الفقراء:{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ}[فاطر:١٥]، فكل مخلوق فقير إلى الله جل وعلا فقراً لا ينفك عنه، فقير في منشئه ومبدئه، فقير في حاله وما هو عليه، فقير في مآله ومنتهاه، فهو فقير إلى الله دائماً، ويتضح فقر العبد بما يلي: أولاً: خلقه الله جلا وعلا ولم يكن شيئاً.
ثانياً: هو فقير في حياته، فإن تخلى الله جل وعلا عنه تخطفته الشياطين، وتحكمت به الأهواء، وهلك من حيث لا يشعر.
ثالثاً: هو فقير في مآله ومنتهاه إلى الله جل وعلا، فإن لم يتغمده الله جل وعلا برحمته فهو هالك، وكل الخلق إلى الله فقراء، وقد أوجب الله على عباده أن يعبدوه وحده، وأن تكون العبادة له وحده، فإن دخل العبادة شيء من القصد لغير الله فمقتضى غنى الله جل وعلا وكرمه أن يترك هذا العمل للذي قصد، وهذا عام مطلق في كل عمل، فإذا دخل العمل الرياء فإنه يكون داخلاً في هذا النص سواء كان في مبدأ ذلك ومنشئه، أي: نشأ معه في العمل أو طرأ عليه في أثنائه، فإنه يكون قد أشرك فيه غير الله، فيكون الجزاء أن الله يتركه وشركه، والضمير في قوله:(تركته وشركه)، إما أن يعود إلى العمل أو إلى صاحبه.
أما ما ذكر من أنه إذا كان منشأ العمل وأصله ومبعثه لله جل وعلا خالصاً، ولكن طرأ عليه الرياء، ثم ذكر الخلاف فيه، فالحديث نفسه يفصل في هذا، فلا وجه للخلاف في ذلك، فإن الشرك إذا طرأ على عمل أفسده، ولكن إذا كان خاطراً يخطر في نفسه، ثم دفع ذلك الخاطر وأعرض عنه وأصلح نيته وأخلصها، فإن هذا لا يضره؛ لأنه مجرد شيء عرض ولم يتحقق.
أما إذا استدعاه بنفسه بأن عرض له في نفسه ثم طلبه واستدعاه واسترسل معه، فهذا يكون محبطاً للعمل، والعمل الذي يحبط بذلك هو العمل الذي قارنه الشرك فقط، أما شيء قبله أو شيء بعده فهذا له حكمه: إن كان مخلصاً فيه فهو لله جل وعلا، وإن كان فيه شيء من الرياء وإرادة النفس وإرادة الدنيا فهو داخل في ذلك، فيتركهُ الله وشركه.
ومعنى ترك الله جل وعلا له: عدم الاعتداد به، والثواب عليه، بل يترك لصاحبه ويقال له:(اذهب إلى الذي كنت ترائي، فاطلب ثوابك منه)، وقد يأتي الإنسان يوم القيامة بأعمال ظاهرها أنها خالصة لله على ما يرى، ثم تصبح باطلة ومحبطة، ويصبح جزاء صاحبها عذاب الله جل وعلا، فإذا كانت قد خفيت على الملائكة الذين يكتبون ذلك، فإنها لا تخفى على علام الغيوب الذي يعلم نية العبد ومقصده، ويقول الله جل وعلا: إنها عملت لأجل فلان ثم يردها جل وعلا، ولكن الغالب أن المرائي لا يخفى أمره.