[إثبات صفة المحبة لله عز وجل]
قال الشارح: [وفي الحديث إثبات صفة المحبة لله تعالى خلافاً للجهمية ومن أخذ عنهم].
المحبة من الصفات التي ذكر الله عز وجل كثيراً أنه يتصف بها، ولكن الجهمية أنكروها، وفي الواقع لا ينظرون إلى كتاب الله ولا إلى سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصلهم زنادقة دخلوا إلى الإسلام ليفسدوه، هذا هو أصلهم، فاغتر بهم من اغتر، كسائر الدعوات التي تأتي دخيلة كل الناس يكون عنده بصيرة في النظر، ويغتر فيظن أن كل داع وقائم يريد الحق، فيغتر ويتبعه على ذلك وهو لا يدري.
فاتبعهم على قولهم الباطل خلائق ليسوا منهم ولكنهم ضلوا؛ لأنهم أضلوهم بذلك، فصاروا مما ينكرونه كون الله جل وعلا يتصف بالصفات، بل جعلوا التوحيد عندهم أن لا يوصف الله جل وعلا بصفة، سواءٌ أكانت صفة فعل، أم صفة ذات -تعالى الله وتقدس- ويقولون: لا يكون الإنسان موحداً حتى يعطل الله جل وعلا من أوصافه.
ولا شك أن هذا من أعظم الضلال، ولهذا كثير من العلماء كفرهم وأخرجهم من الدين الإسلامي، وقال: ليسوا من الاثنتين والسبعين فرقة التي أخبر الرسول الله صلى الله عليه وسلم عنها حيث قال: (افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة، وافترقت النصارى على اثنتين وسبعين فرقة، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة، فقالوا: من هي؟ فقال: من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي) فالثنتان والسبعون كلها ضالة، والناجية هي أمة الإجابة، الأمة التي استجابت للنبي صلى الله عليه وسلم، وليست من الأمة التي بعث النبي صلوات الله وسلامه عليه إلى دعوتها؛ لأن هذا للخلق كلهم، فيقول العلماء الذين كتبوا في الفرق: هؤلاء ليسوا من الاثنتين والسبعين.
أي أنهم ليسوا من المسلمين، هذا معناه؛ لأن الاثنتين والسبعين من المسلمين إلا أنها فرق ضالة توعدت بدخول النار، وأمرها إلى الله جل وعلا.
وكذلك فرق الباطنية التي تبطن الكفر وتظهر الإيمان، كلهم من هذا القبيل، فهم أنكروا أن يكون الله جل وعلا يحب أحداً، والعجيب أنهم أنكروا المحبة من الجانبي، أي أن الله لا يحب ولا يُحب -تعالى الله وتقدس- فإذن ما هو الإيمان؟ وما هي العبادة؟ العبادة هي التأله الذي هو حب يصل إلى الغاية والنهاية من الذل والتعظيم، والذي ينكر ذلك ينكر دين الإسلام أصلاً، فالله جل وعلا إذا أخبر عن نفسه بخبر وجب قبوله وتصديقه، وكذلك كونه جل وعلا مخالفاً لخلقه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى:١١] تعالى وتقدس، فهو يحب، ولكن محبته ليست كمحبة العباد التي تكون مقتضية للحاجة والفقر، فالرب جل وعلا يحب، وهو غني عن كل ما سواه، والخلق كلهم فقراء إليه، ولكنه كريم جواد، فهو يحب المتقين والمؤمنين، ويحب التوابين، ويحب الصابرين، ويحب من اتبع رسوله، وكذلك يحب من امتثل أوامره واجتنب نواهيه، ولذلك من أنكر المحبة كهؤلاء فالواقع أنه ينكر الإسلام عموماً.
وشبهتهم التي زعموا هي مبنية على التشبيه الذي ارتسم على أذهانهم ولم ينطقوا به، وزعموا أنهم ينزهون الله، وذلك أنهم قالوا: المحبة هي الميل إلى الملائم، والميل إلى الملائم يقتضي الفقر، فلو لم يكن عنده فقر ما مال إلى الملائم.
فعلى هذا قالوا: لا يجوز أن نصف الله جل وعلا بالمحبة؛ لئلا يكون متصفاً بالميل إلى الملائم.
فيقال لهم: هذه المحبة التي تكون فيكم أنتم، وهي محبة الخلق، أما محبة الله جل وعلا فهي تليق به بجلاله وعظمته، لا يجوز أن تكون مثل محبة المخلوق، تعالى الله وتقدس.
فالذين يؤولون المحبة هم الأشعرية، فهم لا ينكرونها مثل الجهمية، ولكنهم يؤولونها، والتأويل يقول بعض العلماء: هو شر من فعل الجهمية.
لأن كثيراً من المسلمين اغتر بقولهم؛ لأنهم زعموا أن الحق معهم، وأن هذا هو معنى ما أخبر به الله جل وعلا عن نفسه بأنه يحب.
وتأويلهم إياها يكون على نوعين: أحدهما: أن يؤولوها بصفة أخرى كالإرادة، فيقولون: (يحب المتقين) معناه: يريد منهم التقوى، و (يحب المحسنين) يريد منهم الإحسان.
النوع الثاني: يؤولونها بشيء مخلوق لا يتصف الله جل وعلا به، وهو إرادة الإثابة، أي: يثيبهم، فـ (يحبهم) يعني: يثيبهم ويجزيهم.
ومعلوم أن الإثابة والجزاء شيء منفصل عن الله جل وعلا، بل هو شيء مخلوق، فلا يجوز أن يكون المخلوق صفة لله جل وعلا، كل هذا باطل، بل المحبة يجب أن يوصف الله جل وعلا بها على ظاهرها، مع تنزيه الله جل وعلا عن خصائص المخلوقين، وأنه ليس كمثله شيء تعالى وتقدس.