بين في هذا الحديث أن الدماء حرام، وأن الأصل فيها العصمة، وليس فقط دماء المسلمين، وإنما دماء المعاهدين وأهل الكتاب وغيرهم من الوثنين والمشركين الذين بينهم وبين المسلمين عهد وميثاق، ما داموا يحافظون على هذا العهد ويعملون بمقتضى هذا الميثاق، فإن نقضوا العهد والميثاق صاروا محاربين، ووجب على إمام المسلمين أن يقاتلهم وأن يريق دماءهم، وهذه عزة الإسلام، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام:(إن دماءكم حرام عليكم، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا)، أتعلمون أن هذا البلد حرام، وأن هذا الشهر حرام، وأن هذا اليوم حرام؟ قالوا: نعم يا رسول الله! قال: فكما تعلمون ذلك فيجب عليكم أن تعلموا أن الأصل في الدماء العصمة، وأن الأصل في الدماء الحرمة.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام مبيناً حرمة دم المعاهد فيما أخرجه البخاري في صحيحه:(من قتل معاهداً -أي: في عهده، سواء من أهل الكتاب أو من غيرهم- لم يرح رائحة الجنة)، وقال عليه الصلاة والسلام:(اجتنبوا السبع الموبقات)، وذكر منها (وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق)، وروي عن عبد الله بن عمر كما أخرجه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(لا يزال المسلم في فسحة من دينه ما لم يصب دماً حراماً)، قال عبد الله بن عمر -وهو راوي هذا الحديث، وهو أفهم الناس له ولروايته-: إن من ورطات الأمور التي إذا دخل فيها العبد ربما لا يجد منها مخرجاً: إصابة دم بغير حق.
وفي هذا الحديث إشارة إلى أن باب التوبة مفتوح على مصراعيه، وربما ضاق على العبد بقتل نفس بغير حق.
وقال النبي عليه الصلاة والسلام:(لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: النفس بالنفس، والثيب الزاني، والتارك لدينه المفارق للجماعة)، وقال عليه الصلاة والسلام:(من بدل دينه فاقتلوه)، فالأصل في الدماء الحرمة، وهي شهادة شرعية من النبي عليه الصلاة والسلام، ومن رب العزة قبل ذلك، حتى حرمة دماء الكافرين ما داموا يحترمون عهودهم ومواثيقهم، وما داموا يجنحون إلى السلم حقيقة لا زوراً ولا بهتاناً كما يفعله كفار هذا اليوم، فينادون بالسلام وهم أبعد الناس عن السلام، ولذلك قال الله تعالى:{وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ}[الأنفال:٦١] أي: إن جنحوا هم مع الذل والصغار والهوان، ومع عزة الإسلام وارتفاع أهله، فحينئذ اجنحوا يا مسلمون إلى السلام ما دام أن أهل الكفر قد طلبوا ذلك منكم، إذ هو بمثابة طلب الأمان وحقن الدماء، فإن احترموا عهودهم ومواثيقهم فلهم ذلك، إلا أن يخونوا فلا نحترم لهم عهداً ولا نوفي لهم بذمة حينئذ؛ لأنهم بدءوا بنقض العهد كما هو حال الأمم الكافرة من اليهود والنصارى، وأقولها بملء الفم: إن اليهود والنصارى في هذه الأيام أو في هذه الأعوام لا عهد لهم ولا ميثاق في شتى بقاع الأرض؛ لأنهم هنا وهناك ينقضون العهد ويقتلون الأبرياء والمدنيين من المسلمين، رجالاً ونساءً وأطفالاً وأجنة، فيبقرون البطون ويخرجون الأجنة ويقطعون رءوسها ويلعبون بها كما يلعب الصبيان بالكرة، وما يحدث في أيامنا هذه أعظم ناقض للعهد.
فهذه الدماء التي تراق في أفغانستان وفي فلسطين وفي الشيشان وفي بورما وفي كشمير وفي تايلاند وفي كل بلاد الإسلام والمسلمين لابد لها من ثمن، ولابد أن يدفع اليهود والنصارى ثمنها، إي والله، ولا خير فيكم إن لم تأخذوا بثأر إخوانكم، كما لا خير في حكومة تولت أمر المسلمين في بلد من البلدان أو في بقعة من البقاع ولم تأخذ على عاتقها رد كرامة وإهدار هذه الدماء، وهذا واجب على الشعوب كما هو واجب على الحكام جميعاً، وليس هناك حكومة شرعية ولا دولة إسلامية تحترم إلا إذا رفعت راية الجهاد، وأخذت بثأر إخواننا وأبنائنا ونسائنا وأطفالنا هنا وهناك، حتى يندحر العدو في بيته، وحتى يدفع الجزية عن يد وهو صاغر، ثم إن الإذعان والخضوع لله عز وجل لا يكون إلا برفع راية الجهاد، فإذا كانت دماء المسلمين حراماً بين بعضهم مع البعض، فمن باب أولى أن تكون حراماً على غير المسلمين، ولكنهم لا يطالبون في أرجح الأقوال بفروع الشريعة، فحينئذ فإن الغنيمة الباردة أن يريقوا دماء المسلمين، فمن المسئول عنها حينئذ؟! أهؤلاء الأطفال والنساء والأبرياء الذين لا حيلة لهم ولا قوة؟! إن المسئول عن ذلك بالدرجة الأولى هم حكام المسلمين؛ إذ إن هذه الدماء معلقة في رقابهم يوم القيامة يسألون عنها؛ لأنهم هم الذين قتلوها بسكوتهم عن هذا العدو الغاشم الظالم.