كذلك بين عليه الصلاة والسلام حرمة الدماء، وقد تكلمنا عنها بما يغني ويكفي، لكننا نشير إشارة سريعة إلى أن الدماء مصونة في أصلها ومحرمة في مبدئها، ولا يجوز إهدارها إلا بحقها، وحقها قد ورد في كتاب الله تعالى وفي سنة النبي عليه الصلاة والسلام، وذكرنا طرفاً من ذلك فيما مضى، ولأهمية الدماء قال النبي عليه الصلاة والسلام:(إن أول شيء يقضى فيه بين العباد يوم القيامة الدماء).
وكأنه أشار إلى أن من نجا من هذا فهو لما بعده أنجى وإلا فلا، والدماء مصونة ليس فقط دم الغير من الاعتداء عليه، وإنما كذلك دم الذات والنفس، فلا يحل لأحد أن يقتل نفسه، ولذلك أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:(من تردى من جبل فقتل نفسه -أي: على سبيل الانتحار- فهو يتردى في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن تحسى سماً فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً، ومن وجأ نفسه بحديدة -أي: طعن نفسه بحديدة- فقتل نفسه فحديدته في يده يتوجأ بها في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً).
فهذا النص محمول على الوعيد الشديد، وإن كان لا يكفر الفاعل لذلك إلا إذا استحل مع قيام الحجة عليه، فإذا أصر على ذلك كفر وخرج من الملة؛ لأنه في هذه الحالة كفر باستحلال ما حرمه الله عز وجل لا بمجرد قتل نفسه، لذا فالإنسان مسئول عن بدنه فيم أبلاه، كما قال عليه الصلاة والسلام:(لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع: عن عمره فيم أفناه، وعن جسده فيم أبلاه، وعن علمه ماذا عمل فيه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟)، فأنت مسئول عن المال، ولذلك عطفه النبي عليه الصلاة والسلام على الدماء فقال:(إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم)، ولأجل ذلك حد الإسلام الحدود، ولما حدها وبينها قال:{تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا}[البقرة:٢٢٩]، فلا يحل لأحد قط مهما كان شأنه وبلوغ أمره أن يتعدى حداً من حدود الله عز وجل، لا بالشفاعة ولا بالزيادة فيه ولا بالنقصان منه إلا أن يموت المحدود في أثناء قيام الحد، فيجب أن يتوقف الضارب لمن كان محدوداً.
فإذا كنت تحده ثمانين جلدة فمات عند الثلاثين أو الأربعين أو أقل من ذلك أو أكثر فينبغي أن تمسك عن استمرار الحد، وبعض أهل العلم قال: يحد وإن مات، وهذا رأي شاذ ضعيف، فانظروا إلى حفاظ الإسلام على حرمة الآدمي، حتى وإن كان كافراً فإنه لا يضرب بعد موته ولا يمثل به، ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا أرسل سرية قال:(سيروا باسم الله على بركة الله ولا تمثلوا) أي: لا تقطعوا الجثة أجزاءً بعد موتها، ولا تقطعوا أطرافها وهي حية احتراماً للآدمي، بصرف النظر عن كونه مسلماً أو غير مسلم، فلا تمثلوا ولا تغدروا ولا تغشوا، وكذلك كانت وصية الخلفاء الراشدين لسراياهم وجيوشهم التي كانوا يرسلونها لمقاتلة الأعداء، وهناك قوانين شرعية اكتسبت منها القوانين الدولية البعض وتعامت عن الكثير، لكن الإسلام رحمة عظيمة جداً لأبنائه ولغير أبنائه، وكما قلت: هذه شهادة في الدماء والأموال والأعراض سجلها الإسلام منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام للحفاظ على آدمية الآدمي وإنسانية الإنسان، وليس كما تفعله تلك القوانين الجائرة التي يسمونها مرة بقوانين العدالة، أو قوانين الديمقراطية أو غير ذلك، فكل هذا كذب وزور، وهم يعلمون أنهم كاذبون ومزورون، والذين ينعقون خلفهم يعلمون أنهم ينعقون خلف الكذبة والمزورين كذلك، إذ إن شرع الله تعالى حق كله ومصلحة كله، وحيث ما كان الحق والمصلحة فثم شرع الله عز وجل، وما دون ذلك خرط القتاد، لذا لا يصح لأحد أن ينابذ بكتاب الله وبسنة النبي عليه الصلاة والسلام قانوناً من تلك القوانين الأرضية السفلية، ومن رجح قانوناً أرضياً على قانون السماء أو ساواه به فقد كفر بالله عز وجل، وفارق ملة الإسلام، وانتقل منها إلى وحل الكفر والنكران والجحود، ومصيره يوم القيامة الخلود في نار جهنم مع فرعون وهامان.
فشرع الله تعالى مصلحة كله، سواء كان هذا الشرع للمسلمين أو لغير المسلمين، والصادقون مع أنفسهم من أهل الكتاب يعلمون تلك الحقائق من دين الله عز وجل، ولذلك نجدهم أحياناً يثنون على دين محمد عليه الصلاة والسلام، فهم اتصفوا بالعدل في بعض القول لا في كل القول، وإلا فالأصل أن صدورهم قد امتلأت غلاً وحقداً وحسداً على الإسلام وأهله، قال تعالى:{وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً}[النساء:٨٩]، وقال:{وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى}[البقرة:١٢٠]، فدين الله تعالى هدىً كله، أما القوة اللازمة لأهل الإسلام فهي قوة في قمة اليسر والسهولة، ولو أن كل مسلم أدى ما عليه لله عز وجل ولرسوله الكريم