[الإشهاد على تبليغ النبي صلى الله عليه وسلم للأمة أمر دينها]
الرؤية سوداء والكلام فيها يطول، لكن النبي عليه الصلاة والسلام يأخذ العهد والميثاق على هذه الأمة فيقول (وأنتم تسألون عني فما أنتم قائلون؟)، وهنا يبكي الصديق رضي الله عنه، فقالوا جميعاً:(نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت)، هذه شهادة الأمة التي تعبت في حمل هذا الدين إلينا، وهي شهادة لكل مسلم إلى قيام الساعة، وليس الصحابة فحسب، نعم الدين قد بلغ، وحجة الله على عباده قد قامت بإرسال الرسل وإنزال الكتب، لكن من يطلب الحق؟ بل من يريد الحق؟ من إذا ذهب الحق إليه قبله؟ ولذلك رفع النبي عليه الصلاة والسلام سبابته إلى السماء وينكتها إلى الناس ثلاثاً بعد أن أقروا على أنفسهم أن رسول الله قد بلغ ونصح وقضى ما عليه:(اللهم اشهد، اللهم اشهد، اللهم اشهد)، وأخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري - سعد بن مالك بن سنان - رضي الله عنه أنه قال: إن النبي عليه الصلاة والسلام قال (يؤتى بنوح يوم القيامة، فيقول الله عز وجل له: يا نوح! فيقول: لبيك وسعديك يا رب! فيقول: هل بلغت أمتك؟ فيقول نعم يا رب! فيؤتى بأمته ويسألهم الله وهو أعلم: هل بلغكم نوح؟ فيقولون: ما جاءنا من بشير ولا نذير)، كذبوا يهود، خنازير، بل حكم عليهم رجل منهم، عبد الله بن سلام حبر من أحبارهم من أهل المدينة، فقد سمع بمقدم النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، فأتاه وأسلم بين يديه وقال:(يا رسول الله! إنك تعلم منزلتي عند يهود، فلا تخبرهم بإسلامي حتى تسألهم عني، فجاء اليهود فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: ما تقولون في عبد الله بن سلام؟ فقالوا: فقيهنا وابن فقيهنا، وعظيمنا وابن عظيمنا، وشريفنا وابن شريفنا، وكان عبد الله في الحجرة الأخرى فخرج وقال: إني أسلمت لله رب العالمين، فقالوا: أنت سفيهنا وابن سفيهنا، وحقيرنا وابن حقيرنا)، إنهم اليهود أهل غدر وبهت بشهادة عبد الله بن سلام، حيث قال: سلهم عني قبل أن تخبرهم بإسلامي، فإنهم قوم بهت، أي: قوم ظلم وتعد وغدر وخيانة، مع أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يأخذ العهد والميثاق على عباد الأصنام والأوثان، ولم يثبت أنهم خانوا، لكن لم يثبت أن اليهود احتفظوا بعهد قط، ولذلك كان النبي عليه الصلاة والسلام إذا أخذ العهد على أصحاب عباد الأوثان أمن جانبهم؛ لأنهم رجال، فهذا أبو سفيان بن حرب لما سأله هرقل عظيم الروم عن النبي عليه الصلاة والسلام نظر أبو سفيان إلى أصحابه، فقالوا: أجب يا أبا سفيان! أي: قل قولاً غير ما تعلمه عن محمد، قال: أخشى أن تعيرني العرب وتقول يوماً: إن أبا سفيان كذب.
أما اليهود فلا عهد ولا أمان لهم، ومن رام منهم صلحاً أو عهداً أو ميثاقاً فليعلم أنه إنما يجري خلف سراب، حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً ووجد الله عنده فوفاه حسابه.
فهذه هي أمة اليهود، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام:(لو كان موسى حياً ما وسعه إلا أن يتبعني)، فالحجة قد قامت، وإن عيسى ابن مريم -يا معشر النصارى- حي رفعه الله تبارك وتعالى إليه، فهو في السماء حي عند ربه، وسينزل في آخر الزمان يدعو بدعوة نبينا عليه الصلاة والسلام، فهو واحد من أفراد أمة محمد، وعندما ينزل في آخر الزمان يُدعى إلى أن يصلي بالمسلمين فيأبى ويقول: ليصل بكم رجل منكم، فيصلي بهم وبعيسى ابن مريم عليه السلام، فإذا ظهر أحرق وهدم رموز النصارى التي يتمسكون بها، فيقتل الخنزير وهو طعامهم، ويكسر الصليب وهو معبودهم، فهذه براءة من الآن لمن أراد أن يتوب منهم، وأن يقبل الحق ويرجع إلى صوابه، وأن يترك ما عليه من كفر، وأن يدخل في حظيرة الإيمان.
ويقول النبي عليه الصلاة والسلام:(أنا سيد ولد آدم ولا فخر)، فهو النبي الذي رفع قدره وذكره فوق قدر وذكر كل الخلائق حتى الأنبياء، أما قوله:(لا تقولوا: أنا خير من يونس بن متى)، فإن هذه الخيرية إنما هي في مبدأ الإيمان؛ لأننا مطالبون بالإيمان بجميع الرسل على درجة واحدة، فلا يقل أحد: أنا مؤمن بالنبي عليه الصلاة والسلام إيماناً كاملاً، لكن مؤمن بعيسى نصفاً ونصفاً، وبموسى نصفاً ونصفاً، لا، فلست مؤمناً، بل أنت كافراً؛ لأن من أصول الإيمان أن تؤمن بجميع الرسل إيماناً واحداً كما تؤمن بجميع الكتب التي نزلت من السماء قبل التحريف والتبديل على الإجمال دون التفصيل، وتؤمن بالكتاب الذي أرسله الله إليك على سبيل الإجمال والتفصيل كذلك.
وعليه فالذي يقول من أبناء المسلمين: أنا مؤمن بمحمد كافر بعيسى؛ فقد خرج من الملة وهو لا يدري؛ لأن عيسى ابن مريم قد برئ من النصارى بمجرد أن بدلوا وحرفوا، وبمجرد بعثة النبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك يقول الله تعالى: {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ