للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[إهدار جاهلية الثارات]

قال النبي عليه الصلاة والسلام: (ودماء الجاهلية موضوعة) فهذه الحروب الطاحنة التي دارت بين أهل الجاهلية لم يكن لها أساس ولا حتى شبه شرعي، بل كان الأوس والخزرج يتحاربون ويتقاتلون من أجل ناقة أكلت من أرض الغير، فدارت بينهم حروب ومطاحن هلك فيها آلاف الأنفس، فانظروا إلى سفاهة العقول وسذاجة الفطر التي كان عليها أهل الجاهلية، ولذلك لما أرادوا الانتقام بعد بعثة النبي عليه الصلاة والسلام قال: إن هذه الدماء موضوعة وباطلة، ولا حق لأحد أن يطالب بها، فقد نشأت قبل الإسلام، والإسلام يجب ما قبله، والحج يجب ما قبله، وكذلك التوبة تجب ما قبلها، أي: تغفر ما قبلها، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام ليتأسى به من بعده: (وإن أول دم أضع)، أي: أول دم هدر لا قيمة له، ولا أطالب به، هو دم طفل رضيع صغير لقريش، وهو ابن عم النبي عليه الصلاة والسلام، فقد كان مسترضعاً في بني سعد، واسمه: إياس بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب، وقد كان يجوب بين البيوت فأصابه حجر من هذيل فقتله، فقامت قريش بأسرها تطالب هذيلاً بأسرها! وهذا من العجب أن تقتل أمة بواحد، ولذلك قال الله عز وجل: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} [البقرة:١٧٩]، مع أنه موت وقتل، إلا أن لنا فيه حياة، ووجه الحياة فيه: أن النفس بالنفس دون تعد وظلم، وحتى تبقى بعد ذلك المجتمعات، وأن الذي يقتل هو الذي يقتل لا غيره، وفي الجاهلية كانوا إذا اصطلحوا على أن يقتل واحد فقط من القبيلة في مقابل ما قتلوا من القبيلة الأخرى؛ كان لأهل القتيل أن يتخيروا من يشار إليه بالبنان من تلك القبيلة الأخرى، حتى يكون ذلك أبلغ في النكاية، فيختار عظيمهم وشريفهم وسفيرهم وزكيهم، فجاء الإسلام فأبطل هذا كله، وقال: النفس بالنفس، فالذي قتل هو الذي يقتل، مع أن هذا كله في الإسلام موضوع، إلا ما كان بعد الإسلام، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام بعمله قبل قوله، قال: (وأول دم أضع هو دمنا)، أي: دم قريش، دم بني عبد المطلب، دم إياس بن ربيعة فلا نطالب به، ولذلك العالم إذا دعا الناس بعمله فهذا أبلغ من دعوتهم بعلمه، ويا ويل من خالف ما قال، أو ترك العمل بما علم، جاء في الصحيح من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما أنه قال: قال النبي عليه الصلاة والسلام: (يجاء بالرجل يوم القيامة فيدور في النار كما يدور الحمار في الرحى، حتى تندلق أقتاب بطنه -أي: تنزل أمعاؤه- فيجتمع إليه الناس فيقولون له: يا فلان ما لك؟! ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ قال: نعم، ولكني كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه، وأنهاكم عن المنكر وآتيه).

وأبلغ من ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: (أول من تسعر بهم جهنم ثلاثة)، وللوهلة الأولى ربما يظن السامع أنهم أصحاب كبائر، لا وألف لا، بل هم أصحاب أفضل الأعمال وأشرف الرئاسات وأحسن السؤدد في الدنيا، رجل عالم علم الناس، لكنه ما كان مخلصاً في هذا، وإنما علمهم ليقال: عالم، فيؤتى به بين يدي الله عز وجل فيقال له: عبدي علمتك كيت وكيت، ويذكره بنعمه عليه فيذكرها، ثم يقول له: ماذا عملت بها؟ فيقول: يا رب! تعلمت فيك العلم، أي: تعلمته خالصاً لك، وعلمته الناس، فيقال له: كذبت، وإنما علمتهم ليقال: عالم، أي: ليس لك أجر، فيؤمر به فيسحب على وجهه في نار جهنم، مع أن الذي يسحب إنما يسحب على بطنه أو على ظهره أو على جنبه، أما سحبه على وجهه فهذا أمر لم يشهده أحد من الخلق، وكذلك المجاهد والمتصدق.

ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام: (وأول دم أضع من دمائنا دم ابن ربيعة بن الحارث، كان مسترضعاً في بني سعد فقتلته هذيل، وربا الجاهلية موضوع، وأول ربا أضع ربانا) أسوة وقدوة أخرى لمن أراد الاقتداء، ولذلك قال النبي عليه الصلاة والسلام فيما رواه أحمد في مسنده بسند صحيح: (من اقتدى بي فإنه مني)، وأخرج مسلم في حديث طويل أنه عليه الصلاة والسلام قال: (أما لكم في أسوة؟ أما ترضوني أسوة لكم؟)، كالمستنكر لهم، وذلك لما فاته الصبح حتى صلى بعد طلوع الشمس، ففزع الصحابة أشد الفزع وقالوا: يا رسول الله! ما حكم صلاتنا هذه؟ فإذا كان هو عليه الصلاة والسلام أول من ضربته الشمس فاستيقظ، فغيره من باب أولى، ولست بهذا أعطي رخصة لمن أراد أن ينام حتى تطلع الشمس، ولكن النبي عليه الصلاة والسلام والصحابة في غزوة من الغزوات لحقهم التعب والكلل، فقال عليه الصلاة والسلام: (من يرقب لنا الفجر؟ فقال بلال: أنا يا رسول الله!)، فقد اتخذ الأسباب للاستيقاظ، فلما ناموا نام معهم بلال، فكان أول من أيقظته الشمس هو النبي عليه الصلاة والسلام، فجيء بـ بلال بين يديه يعاتبه، فقال له: (أي بلال! فقا

<<  <  ج: ص:  >  >>